| 0 التعليقات ]

زهده وعبادته

إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانباً آخر- غير ما سبق - وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه.
فإن (من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - وبخاصة كتابه (مدارج السالكين) - يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم –رحمه الله تعالى– كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته.
وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه - لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح - ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس"1.
فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل.
نعم، لقد شَمَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ساعد الجد في العبادة ليلاً ونهاراً، حتى قال عنه أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وأصحبهم له - وهو الحافظ ابن كثير -: "ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه"1.


وفيما يلي طرفٌ مما حكاه بعض من شاهد أحواله في ذلك:


1ـ طول صلاته وقيامه بين يدي الله سبحانه، وطول ركوعه وسجوده: فقد وُصِفَ –رحمه الله - بطول الصلاة "إلى الغاية القصوى"2.
وكانت طريقته - رحمه الله - في الصلاة: أنه (يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا يَنْزِع عن ذلك رحمه الله"3.
وكيف يَنْزِع عن ذلك، أو يُقْلِع عنه، وقد وجد راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، والأنس بمحبوبه في طول الوقوف بين يديه سبحانه، وكثرة المناجاة له؟ وكيف يُقْلِع عن ذلك وهو يرى أن (من لم تكن قرة عينه في الصلاة، ونعيمه وسروره ولذته فيها، وحياة قلبه وانشراح صدره"4، فأولى به أن يكون من السُّرَّاق في صلاتهم، الذين ينقرونها نقراً.

2ـ تهجده وقيامه الليل: فقد قال عنه ابن رجب رحمه الله: "كان ذا عبادة وتهجد"1.
وكيف بهذا العالم الرباني يغفل عن قيام الليل، أو يتوانى في ذلك، وقد علم أنه (وَقْتُ قَسْمِ الغَنَائم)2، فأسهر ليله، ووقف بين يدي مولاه والناس نيام حتى يكون يوم القيامة من الآمنين، وفي الموقف من المطمئنين؛ فإن من "سَبَّح الله ليلاً طويلاً،لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخفَّ شيء عليه"3. كما يقول هو رحمه الله.
ويقرر - رحمه الله - أن في قيام الليل الكثير من الفوائد التي تعود على المسلم بالخير في صحته وبدنه؛ فإن قيام الليل "من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب"4.
3ـ كثرة ابتهاله وتضرعه ودعائه: فقد وصفه ابن كثير - رحمه الله - بـ (كثير الابتهال)5. وقد وُصِفَ أيضاً بـ "الافتقار إلى الله، والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته"6 بحيث لم يشاهد مثله في ذلك.
4ـ ملازمته - رحمه الله - لذكر الله واستغفاره: بحيث كان ذا (لَهَجٍ1 بالذكر... والإنابة والاستغفار"2.
ومما يذكر عنه في ذلك أيضاً: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله - تعالى - حتى يتعالى النهار جداً، وكان إذا سُئِل عن ذلك يقول: هذه غَدْوَتِي3، ولو لم أَتَغَدّ هذه الغدوة سقطت قواي4. وقد ذكر هو - رحمه الله - عن شيخه ابن تَيْمِيَّة مثل ذلك5 فلا مانع أن يكون هذا الفعل ثابتاً عنهما رحمهما الله.
وحريّ بمثل ابن القَيِّم أن يحرص على الذكر، ويكثر منه ولا يفارقه، ويجد فيه راحة قلبه؛ وذلك أنه عرف منزلة ذكر الله وفوائده الجمة، حتى أخبر - رحمه الله - أن (في الذكر أكثر من مائة فائدة"6. ثم ساق من هذه الفوائد نيفاً وتسعين فائدة7.
فرحم الله ابن القَيِّم، ذاك الذي كان مثلاً صادقاً للعلماء العاملين.

5ـ قراءة القرآن بالتدبر والتفكر: فقد كان - رحمه الله - لا يفتر عن ذلك حتى في أوقاته الحرجة، ويصف تلميذه ابن رجب - رحمه الله - حاله في السجن، فيقول: "وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر"1.
ولأجل ما كان عليه في ذلك من التدبر والتفكر في كتاب الله، فإن تلميذه ابن رجب لم ير "أعرف بمعاني القرآن... منه"2.
6ـ حرصه - رحمه الله - على أداء الحج مرات وكرات: فقد (حج مرات كثيرة، وجاور بمكة"3.
وفي أثناء مجاورته بمكة كان مشتغلاً بالعبادة لا يفتر، حتى إن أهل مكة كانوا "يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يُتَعَجَّب منه"4.
ويصف هو - رحمه الله - شيئاً من عبادته وخضوعه لربه أثناء مقامه بمكة، وذلك عند كلامه على تأليف كتابه (مفتاح دار السعادة) فيقول: "كان هذا من بعض النزل والتُّحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً"5.

وكيف لا يكثر ابن القَيِّم من أداء الحج وهو يصف تلبية الحجيج بأنها (إجابة محب لدعوة حبيبه... وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى"1.
فلم يكن ابن القَيِّم في كثرة حجه، وزيارته لبيت الله الحرام، إلا مجيباً دعوة حبيبه ومولاه.
ومع كل هذا الذي كان عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الجد في العبادة، وبلوغه في ذلك رتبة عَلِيّة، فقد كان يتهم نفسه بالتقصير في حق مولاه، ويشكو كثرة ذنوبه وخطاياه! وهذا من كمال تواضعه وشدة خوفه من الله.
وقد وصف شيئاً من ذلك في قصيدة2 له يُذَكِّر فيها نفسه، أولها:
بُنَيُّ أبي بكرٍ كثيرٌ ذُنُوبُهُ    فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ إِثْمُ
بُنَيُّ أبي بكر جَهُولٌ بِنَفْسِهِ    جَهُولٌ بِأَمْرِ الله، أَنَّى له العِلْمُ؟!
بُنَيُّ أبي بكر غدا مُتَصَدِّرَاً    يُعَلِّمُ عِلْمَاً وَهُو لَيْسَ ُلهُ عِلْمُ
بُنَيُّ أبي بكر غَدَا مُتَمَنِّيَاً    وِصَالَ الْمَعَالِي وَالذُّنُوبُ له هَمُّ
إلى آخر هذه القصيدة التي تبين خوفه ورجاءه وتضرعه لربه، مع ما كان عليه من الجد في العبادة رحمه الله.

2 ذكرها عنه صلاح الدين الصَّفَدِي، وقد أنشده إياها من لفظه. الوافي بالوفيات: (2/272).
وأما زهده: فقد وصف بأنه أزهد أصحاب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله1.
ولعل مما يدل على زهده - رحمه الله - وتقلله من الدنيا، وعدم حرصه عليها ما ذكر في سبب تأليف كتابه (تحفة المودود)، وهو: أن الله - عزوجل - قد رزق ابنه إبراهيم مولوداً، ولم يكن عند والده - ابن القَيِّم - في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: "أُتْحِفكُ بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك"2.
فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في عبادته وزهده وخشوعه وانكساره وخوفه وإنابته إلى ربه سبحانه، كان في ذلك كله نِعْمَ القدوة، وأصدق المثلٍ للسائرين إلى ربهم والدار الآخرة، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وطَيَّبَ ثراه، وجعل الجنة داره ومثواه، آمين.

ترجمة العلامة ابن قيم الجوزية كما ذكرها صاحب كتاب "ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها"

الشيخ : جمال بن محمد السيد.

عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة،

المملكة العربية السعودية

الأولى، 1424هـ/2004م

0 التعليقات

إرسال تعليق