| 0 التعليقات ]

إن الحديث عن مؤلفات ابن القَيِّم يمس أهم جانب من جوانب النشاط العلمي في حياة هذا الإمام العالم العلامة، وذلك لما تَمَيَّزَت به مؤلفاتهُ من جوانب كثيرة مشرقة، فقد كان له فيها "من حُسْنِ التَّصَرُّفِ، مع العُذُوبَةِ الزَّائِدَة، وحُسْنِ السِّيَاق، ما لا يَقْدِرُ عليه غَالِبُ الْمُصَنِّفِيْنَ، بحيث تَعْشَقُ الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتُحِبُّهُ القلوب"1.
هذا إلى جانب الأهمية البالغة للموضوعات التي تناولها -رحمه الله- في مؤلفاته: من ترقيق للقلوب، ودعوة للعودة إلى صراط الله المستقيم ودينه الخالص، إلى غير ذلك من أهدافه السامية النبيلة التي احتوت عليها كُتُبُه.
ولأجل ذلك كله، كتب الله لمؤلفاته الذُّيُوعَ والانتشارَ، في سائر الأمصار والأقطار، واستمرار ذلك على مدى السنين والأعصار، مع محبة القلوب لها، وعِشْقِها لمطالعتها، بحيث لا ينفر منها إلا مقلد عصبي، أو مُبْتَدِع خُرَافِيٌّ.
ولعل خير ما يدل على مكانة مؤلفاته رحمه الله، ويؤكد أهميتها وانتشارها وكثرتها: تلك الشهادات التي سُجِّلَت بأقلام مترجميه، من معاصريه فمن بعدهم إلى أيامنا هذه، فمن تلك الأقوال:
1- قال أبو المحاسن الدمشقي: "ومصنفاته سائرة مشهورة"2.
2- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وله من التصانيف - الكبار والصغار - شيءٌ كثير"1. وقال عند ترجمته لوالده: "وهو والد العلامة شمس الدين صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية"2.
3- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم"3.
4- وقال زين الدين عبدالرحمن التفهني الحنفي (ت835هـ) في تقريظه لكتاب (الرد الوافر): "ابن قَيِّم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق"4.
5- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "له التصانيفُ الأنيقةُ، والتآليفُ التي في علوم الشريعة والحقيقة"5.
6- وقال المقريزي: "... وتصانيفه كثيرة"6.
7- وقال الحافظ ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف"7. وقال - أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر): "صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف"8.
8- وقال السخاوي: "... صاحب التصانيف السائرة"1.
9- ووصف الشوكاني مصنفاته بأنها: "التصانيف الحسنة المقبولة"2.
10- وقال الشطي: "صاحب التصانيف العديدة المشهورة شرقاً وغرباً، والتآليف المفيدة المقبولة عجماً وعرباً"3.
11- وقال الشيخ محمد بهجة البيطار: "صاحب الآثار الكثيرة الْمُحَرَّرَة"4.
تلك بعض أقوال الأئمة في الثناء على مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله، والإشادة بها، وبيان عِظَمِ شأنها وكبير فائدتها.


منهجُ ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مُؤَلَّفَاتِهِ

إن هذه الشهرة التي حققتها مصنفات ابن القَيِّم - بموجب شهادات أهل العلم التي سبق ذكرها- وهذه المكانة المرموقة التي تبوأتها، وهذا الثناء العاطر الذي نَالَتْهُ من الموافق والمخالف على السواء، إن ذلك كله لم يأت عفواً، وإنما كان نتيجة لخصائص وميزات اتسم بها منهجه - رحمه الله - في هذه المؤلفات، وجهدٍ جادٍّ مخلص في سبيل تحبيرها، وعناية فائقة في تحريرها.
ومن هذه الخصائص التي ظهرت لي ولم أقف على من نبّه على الكثير منها:
أولاً: التَّعَدُّدُ والتنوع الموضوعي في مؤلفاته:
لقد سبق الكلام على تضَلُّع ابن القَيِّم - رحمه الله - في فنون عديدة، وإتقانه علوم كثيرة، بحيث يصعبُ على الدارس أن يَحْكَمَ بتفوقه في جانب من العلوم دون بقيتها، فقد شُهِد له بالإمامة في كلِّ فنٍّ من هذه الفنون1.
ولعلَّ هذا الشمول الذي تَمَيَّزَ به ابن القَيِّم في معارفه قد ظَهَرَ جَلِيًّا في المنهج التأليفي عنده، ولذلك فقد عَالَجَتْ مؤلفاته فنون متعددة، وعلوم كثيرة: من فقه، وتفسير، وتوحيد، ولغة، وغير ذلك، فلم يكن نشاطُهُ التأليفي قاصراً على فن واحد.
ثم إن هذا التعدد في الموضوعات والفنون عند ابن القَيِّم ربما كان سمة مُمَيَّزَةً للكتاب الواحد من كتبه، فكتاب (زاد المعاد) - على سبيل المثال - يعد موسوعة شاملة لفنون عديدة: من سيرة، وفقه، وحديث، وغير ذلك.
ومع ذلك، فإن الغالب على المصنف الواحد من مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله: اتصافه بالوحدة الموضوعية، فنجد كتاب: (الصلاة)، و(الروح)، و(حادي الرواح)، و(الطرق الحكمية)، و( الصواعق المرسلة) وغيرها، نجدها يعالج كل منها موضوعاً واحداً، وقد يَرِدُ في أثناء الكتاب كلام خارجٌ عن الموضوع، فيكون ذلك من باب الاستطراد الذي يقتضيه المقام.
ثانياً: أهميَّةُ الموضوعات التي تَنَاوَلَهَا ابنُ القَيِّم بالتأليفِ، وَعِظَمُ قيمَتِهَا.
وقد كان ذلك نتيجةً حتميةً للأهداف التي نَذَر ابن القَيِّم نفسه لتحقيقها، والأوضاع التي عاش مجاهداً لتصحيح الخاطئ منها، فجاءت مؤلفاته - لأجل هذه الأهمية - لا غنى لطالب الحق عنها، ولا مناص للقلوب السليمة من مَحَبَّتِهَا.
فجاء كتابُهُ: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلة)، وكذا (اجتماع الجيوش الإسلامية) لتفنيد كثير من العقائد المنحرفة والمذاهب الفاسدة، وبيانِ المنهجِ الصحيح الذي كان عليه سلفُ هذه الأمة في باب العقائد.
وجاء كتابه: (حادي الأرواح) واصفاً الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين، مُشَوِّقاً لقارئه إلى السعي بجدٍّ لنيلها، والاجتهاد ليكون من أهلها.
وجاء كتاب: (الوابل الصيب) ليضع منهجاً متكاملاً للذكر والدعاء في حياة المسلم، الذي به حياة القلوب، وراحة النفوس.
وجاء كتابه: (الطُّرقُ الْحُكْمِيَّة) يُمَثِّلُ منهجاً فريداً للقاضي والحاكم فيما ينبغي مراعاته عند الحكم من القرائن والأَمَارَاتِ، وما يتعلق بذلك من الفِرَاسَة المَرْضِيَّة.
وهكذا بقية كتبه ومؤلفاته، ما منها كتابٌ إلا وهو يتناول من الموضوعات الْمُهِمَّة ما يحصل به سعادة العبد في دنياه وأُخْرَاه.
ثالثاً: وجود علاقة وثيقة بين الموضوعات التي تناولها بالتأليف، وبين أوضاع مجتمعه ومشاكل عصره.
فقد عاش ابن القَيِّم - كما مضى بيانه - متأثراً بأحداث عصره ومتيقظاً لواجبه تجاهها، ومن ثَمَّ جاءت أكثر مؤلفاته تعالج تلك المشاكل، وتضع الحلول لكثير من الأدواء الْمُسْتَحْكِمَة في المجتمع.
فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يُصَنِّفُ كُتُبَهُ يعيش بِمَعْزِلٍ عن أوضاع مجتمعه وقضاياه المهمة، مما جعل لكتبه أهمية خاصة بالنسبة لكثير من الناس.
رابعاً: اعتماده في الاستدلال لمسائله وقضاياه على الأدلة النَّقْلِيَّة من الكتاب والسنة.
فقد كان - رحمه الله - مُلْتَزماً ذلك في كل كتاباته، يستدل للمسألة التي يوردها من كتاب الله العزيز، ونصوص الحديث النبوي الصحيح، الذي "لا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة، والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، وكل الخيرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَنْ بَيْنَ المشرق والمغرب"1.
وقد مضى ذكر طرف من أقواله في وجوب اتباع نصوص الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما دون ما سواهما2.
خامساً: الاعتماد في الاستدلال على العقل الصريح إلى جانب النقل الصحيح.
فمع اعتماده - رحمه الله - في المقام الأول على نصوص الكتاب والسنة، فإنه لم ير مانعاً من الاعتماد على العقل الصحيح السوي، فإنه يرى "أن ما عُلِم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء، لا يُتَصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه"3.
ولذلك فإنه كثيراً ما يؤكد ضرورة الاستدلال بالعقل السويّ إلى جانب النقل، فيقول عند الاستدلال على أن الروح قائمة بذاتها: "ولا يمكن جواب هذه المسألة إلى على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة القرآن، والسنة، والآثار، والاعتبار، والعقل"4.
وقال جواباً عن شُبَه القائلين بنفي الحكمة والتعليل: "الجواب الثاني عشر: أن يقال: العقل الصريح يقضي بأن من لا حِكْمَةَ لفعله، ولا غاية يَقْصِدُهَا به أَوْلَى بالنقصِ..."5.

سادساً: التَّدَرُّجَ في سِيَاقِ الأدلَّةِ النقلية، وتَرْتِيبُهَا حَسْبَ مَكَانَتِهَا وَأَهَمِّيَتِهَا:
فنجده - رحمه الله - في كثير من كتبه: يبدأ في الاستدلال للمسألة بسياق نصوص القرآن، ثم يُتْبِعها بنصوص السنة، ثم أقوال الصحابة، وهكذا.
ولعل أبرز مثالٍ على تطبيقه لهذا المنهج هو كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ؛ فقد بناه كله على هذه الطريقة، فأخذ في الاستدلال على استواء الله سبحانه:
- بنصوص القرآن أولاً.
- ثم بالأحاديث الصحيحة الثابتة.
- ثم بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
- ثم بأقوال التابعين.
- ثم بأقوال أتباع التابعين، إلى الأئمة الأربعة فمن بعدهم.
سابعاً: التَّحَرُّرُ في تَآلِيفِهِ مِن التَّبَعِيَّةِ لِمَذْهَبٍ أو رأيٍ مُعَيَّنٍ يخالفُ الكتاب والسنة.
ولعلَّ فيما تقدم من كلام على شدة تمسكه بالدليل، والدعوة إلى الاحتكام إليه دون غيره ما يؤكد هذا المعنى.
فابن القَيِّم وإن دَرَسَ المذهب الحنبلي وبَرَعَ فيه، إلا أنه لم يكن بالذي يَتَقَيَّدُ بمذهب إمامه على حساب الدليل، كيف وقد كان حَرْبَاً على التقليد والتعصب المذهبي؟
وقد أحسن الإمام الشوكاني - رحمه الله - وصفه بقوله: "وليس له على غير الدليل مُعَوَّلٌ في الغالب، وقد يميل نادراً إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يَتَجَاسَر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من الْمُتَمَذْهِبِيْنَ، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال"1.
ولقد حَذَّرَ هو - رحمه الله - من خطورة الفتوى وفق مذهب يعلم المفتي أن دليل غيره أرجح من مذهبه الذي أفتى به، وَعَدَّ ذلك خيانة لله ورسوله، وغِشَّاً في الدين، فقال - رحمه الله - عند ذكره فوائد وإرشادات للمفتين: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه: أن يُفتي السائل بمذهبه الذي يُقَلِّدُه، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً... فيكون خائناً لله ورسوله وللسائل، وغاشاً له".
ثم يؤكد - رحمه الله - هذا المعنى مبيناً التزامه ذلك في نفسه، فيقول: "وكثيراً ما تَرِدُ المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤْخَذَ به"2.
ومن تَصَفَّحَ كتب ابن القَيِّم وَجَدَ له جملةً من الاختيارات على غير مذهب الحنابلة، ومناقشته له في بعض القضايا، مُرَجِّحَاً غيره عليه بالدليل.
ثامناً: طولُ النَّفَسِ فيما يكتب، والتَّوَسُّعُ في استقصاء جوانب البحث واستيفاء مقاصده.
وهذه السِّمَة من أهمِّ ما يلفت النظر ويسترعي الانتباه في مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك من تمام نصحه، وكمال حرصه على تبليغ الخير ما استطاع، فَيُبَالِغُ في البسط والبيان، وهو دالٌّ في الوقت نفسه على ما تقدم بيانه: من طول باعه في العلم، ورسوخ قدمه فيه، وعمق معرفته، وصبره في سبيل إيصال الفكرة، وتثبيت الحجة، وإقرار الصواب والحق.
ويُصَوِّرُ الحافظ ابن حجر هذه الميزة في مؤلفات ابن القَيِّم، فيقول: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يَتَعَانَى الإيضاح جُهْدَهُ، ويسهب جداً"1.
وقال الإمام الشوكاني واصفاً ذلك: "وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وَطَوَّلَ ذُيَولهُ أتى بما لم يأت به غيره"2.
ولنذكر مثالاً على ذلك: عند سياقه - رحمه الله - حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم على صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، واختار القول بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً، وأخذ في تقرير ذلك، وسياق الأدلة عليه، والرد على المخالفين وتفنيد حججهم، فاستغرق ذلك أربعين صفحة، ثم قال: "ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم..."3.
ولا أجدني محتاجاً إلى إيراد المزيد من الأمثلة في هذا الصدد؛ فإن ذلك كثير في مؤلفاته رحمه الله لا يكاد ينحصر.
تاسعاً: حُسْنُ الترتيبِ والتبويبِ والعَرْضِ للمعلومات التي يُضَمِّنُهَا كتبه وتواليفه:
تمتازُ مصنفاتُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الكثير الغالبِ - بحسن الترتيبِ والتقسيمِ للمادة التي تحتويها، الأمر الذي يجعلُ لمؤلفاته جَاذِبِيَّةً خاصةً، يشعر بها القارئ وهو يتنقل من باب إلى باب، ومن فصل إلى فصل.
وليُنظَرْ على سبيل المثال: كتابه (حادي الأرواح)، فقد قسمه إلى سبعين باباً، مرتباً إياها ترتيباً بديعاً، مع الترابط والتجانس بينها، بحيث يُسْلِمُكَ كل باب إلى الذي بعده في تسلسل ممتع، هذا عدا الفصول التي تشتمل عليها بعض الأبواب.
عاشراً: حلاوةُ الأسلوبِ، وجمالُ العبارةِ، وعذوبةُ الْمَنْطِقِ، وحسنُ البيان.
وهذه ميزة أخرى تُزَيِّن مؤلفات ابن القَيِّم، فتُبْهرُ العقول، وتأخذ بمجامع القلوب. ولعل ذلك هو ما عبَّر عنه الشوكاني - رحمه الله - بقوله: "وله من حسن التصرفِ، مع العذوبةِ الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ الْمُصنِّفِين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب"1
وهذا الجمال الأخَّاذُ، وتلك العذوبة الزائدة إذا اجتمع إليهما: عُمْقُ الفكرة، ونبلُ الهدف، وصدق الرغبة في إيصال الخير للخلق، عُرِفَ سر هذا الْحُبِّ الْمُتَمَكِّنِ من القلوب لمؤلفاته رحمه الله.
حادي عشر: الاعتماد كثيراً على الأحداث والوقائع التاريخية، مع قوة الاستحضار لها، وبراعة الاستشهاد بها.
فلم يكن ابن القَيِّم - وهو يكتب - بمعزل عن وقائع التاريخ الإسلامي وأحداثه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومَنْ بَعْدَهُم، بل كان يستحضر من ذلك الشيء الكثير، ويحشد منها القدر الكبير، تأييداً لفكرة، أو تأكيداً لمعنى يريد تقريره.
تكلم مرة عن الشجاعة، والفرق بينها وبين القوة، وأن الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أشجع الأمة - بهذا المفهوم - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال - رحمه الله - في بيان ذلك: "ولو لم يكن إلا ثباتُ قَلْبِهِ يومَ الغار وليلتِهِ، وثباتُ قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُك ربك، فإنه منجز لك ما وَعَدَك، وثباتُ قلبه يوم أحد وقد صَرَخَ الشيطان في الناس بأن محمداً قد قُتِلَ... وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قَلِقَ فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصديق لَيُثَبِّتُهُ، وَيُسَكِّنُهُ، وَيُطَيِّبُهُ،وثبات قلبه يوم حنين حين فرَّ الناس وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزلزل لها الجبال، وعقرت لها أقدام الأبطال... وخرج الناس بها من دين الله أفواجاً... وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام... فَشَمَّرَ الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خَوَّار... فَثَبَّتَ الله بذلك القلب - الذي لو وُزِنَ بِقُلوب الأمة لرجحها - جيوش الإسلام، وَأَذَلَّ بها المنافقين والمرتدين"1.
والأمثلة على استشهاده بالوقائع والحوادث الماضية - بهذا التسلسل الشيق، والعرض الممتع - كثيرة جداً بين ثنايا كتبه.
ثاني عشر: الاستعانةُ بالتجاربِ الخاصَّةِ، والخبرةِ الشخصية في دَعْمِ أَفْكَارِهِ، وتأييدِ آرائِهِ.
فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يُسَجِّلُ تجاربه الخاصة وخبرته الشخصية في أثناء كتاباته، وذلك تأييداً لفكرة ما، وزيادة في إيضاحها، وتوفيراً لأكبر قَدْرٍ من اليقين لناظِرِهَا ومُطَالِعِهَا.
يقول - رحمه الله - عند كلامه على تَمَكُّنِ الأرواح الشيطانية من الأجسام في حالات معينة، وأنها تُدفَع بالأذكار، والأدعية، والابتهال الذي يستجلب من الأرواح الْمَلَكِيَّةِ مَا تَقْهَرُ به هذه الأرواح الخبيثة، قال: "وقد جَرَّبْنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قُرْبِهَا تأثيراً عظيماً..."2.
وقال عند كلامه على الاستشفاء بماء زمزم: "وقد جَرَّبْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمرض، فبرأتُ بإذن الله"1.
ثالث عشر: التَّواضُعُ الجَمُّ، وهضمُ الذَّاتِ، وإسنادُ ما يُفْتَحُ به عليه من فوائد إلى فضلِ الله وتوفيقه وتأييده.
وقد مضى ذكر شيء من الأمثلة لذلك عند الكلام على أخلاقه2، ويُلاحِظُ ذلك كل من يطالع كتبه.
رابع عشر: تَحَرِّي الدِّقَّةِ في النقل عن الآخرين، وبخاصة ما كان من ذلك مشافهة.
فنجده - رحمه الله - يحرص على توثيق هذا النقل بما لا يدع في نفس القارئ أدنى شك في صدق ناقله.
فيقول مرة: "ولقد أخبر بعض الصادقين..."3. وقال في مناسبة أخرى: "وحدثني صاحبنا أبو عبدالله محمد بن مساب السلاهي - وكان من خيار عبادالله، وكان يَتَحَرَّى الصدق - قال..."4.

خامس عشر: الحرصُ على تحرِيرِ القول في المسائلِ المختلف فيها، وبيان الراجحِ من ذلك.
فقد جرت عادة ابن القَيِّم - رحمه الله - في أكثر مؤلفاته: أن يَعْرِضَ آراءَ كلِّ فريقٍ في المسائل الْمُخْتَلفِ فيها، مع ذكر أدلة كل فريق، وتحليل ذلك كله ومناقشته، وبيان الراجح من المرجوح، والصواب من الخطأ. ويكون ترجيحه - رحمه الله - لما تدعمه الأدلة، وتؤيده البراهين.
يقول - رحمه الله - في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تكون كالصلاة على إبراهيم عليه السلام1، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم؟ قال: "ونحن نذكر ما قاله الناس في هذا، وما فيه من صحيح وفاسد"2.
ويقول في مسألة الهوي إلى السجود - بعد أن ذكر أقوال الفريقين وأدلتهم -: "والراجح البداءة بالركبتين لوجوه..."3.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
سادس عشر: التَّلَطُّفُ مع الْخَصْمِ، والحرصُ على إيصالِ الخير إليه، وحصولُ الهدايةِ والانتفاعِ له.
فقد عُلِمَ كثرة الخصوم ابن القَيِّم - رحمه الله - من أعداء السنة، والحاقدين على أهلها، ومع ذلك فإن ابن القَيِّم كان حريصاً في كتاباته على الأخذ بيد الضال منهم، وإرشاده إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
ويَوَضِّحُ - رحمه الله - هذا الحرص في مقدمة كتابه (شفاء العليل)1 فيقول: "فيا أيها المتأمل له، الواقف عليه: لك غُنْمُه وعلى مؤلفه غُرْمُه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تَعْجَل بإنكارِ ما لم يَتَقَدَّم لك أسبابُ معرفَتِهِ، ولا يَحْمِلَنَّكَ شنآنُ مؤلِفِهِ وأصحابه على أن تُحْرَمَ ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تَظْفَرُ بها في كتاب، ولعلَّ أكبر من تُعَظِّمُهُ ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها".
فانظر إلى حرصه - رحمه الله - على إيصال نور الهداية إلى مَبْغِضِه وإلى كل من لعله في نفسه شيء عليه.
ومن هذا أيضاً: ما تَقَدَّمَت الإشارة إليه من مناظراته لبعض أهل الكتاب، وما كان من دعوتهم في آخر هذه المناظرات إلى الدخول في الإسلام، دين الهداية والرشاد.
سابع عشر: دِقَّتُهُ - رحمه الله - في اختيار الأسماء والعناوين لكتبه، ومراعاة التطابق بين الاسم والمضمون.
وهذا يلاحظه كل من نظر كتبه وتأملها، وطابق بين اسمها وما بداخلها، مع تَفَنُّنِهِ - رحمه الله - في اقتناء هذه الأسماء: قوةً ورقةً، ترهيباً وترغيباً إلى غير ذلك.
فنجده يختار اسماً رقيقاً جميلاً عندما يريد الكلامَ عن الجنة ونعيمها، والترغيب فيها، وإثارة الشوق إليها، وشحذ الهمم للاستعداد لها، فيقول: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
وقد نصَّ - رحمه الله - على مطابقة اسمه لمضمونه، فقال في مقدمته: "وسميته: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فإنه اسم يطابق مُسَمَّاه، ولفظٌ وافق معناه"1. وقريب من ذلك: (روضة المحبين).
بينما نجد لَهْجَتَهُ تشتدُّ - وقد أعلنَ الحربَ على أتباع الفلاسِفَةِ والْمُتَكَلِّمِينَ، من أهلِ التأويل والتعطيل - فيختارُ لذلك عنواناً قوياً مُدَوِّيَاً، يُوحي بتوجيه ضربات موجعة إلى أعداء عقيدة السلف، فيقول: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلَة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلَةِ)، ويقول أيضاً: (اجتماعُ الجيوش الإسلامية على غزوِ المعطلة والجهمية).
وهكذا نجد هذا التناسب بين الاسم والْمُسَمَّى هو الغالب على سائر كتبه، مع الجمال والبلاغة في غالب هذه الأسماء.
ثامن عشر: وقوعُ التِّكْرار في مؤلفاته.
يلاحظ الناظر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - تكرار الكلام على الموضوع الواحد في أكثر من كتاب من كتبه، وقد يكون تكرار ذلك بلفظه وحروفه، وقد يكون بالمعنى دون الاتفاق في اللفظ والعبارة.
وستأتي عند دراسة الأحاديث التي تكلم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة لذلك، فكان يُكَرِّرُ الكلام على الحديث في مناسبات عديدة1، وكذا كان شأنه في كثير من القضايا الفقهية، والتفسيرية وغير ذلك.
يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: "انتقد بعض الكاتبين ظاهرة التكرار في مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله تعالى... ولكن عند الفحص الدقيق والنظر العميق يتبين للناظر أن هذا ليس من مواضع النقد ولا من مواطن العتب، بل هي ميزة هامة وظاهرة محمودة"2.
ثم ذكر - حفظه الله - قضية التكرار في الكتاب والسنة ومؤلفات سلف الأمة، وَحِكَمَ ذَلِكَ وَأَسْرَارَهُ وفوائِدَهُ.
وابن القَيِّم - رحمه الله - يلجأ للتكرار لأسباب عديدة وفوائد كثيرة، وعلى رأس هذه الأسباب وتلك الفوائد ما يلي:
1- خطورة الموضوع الذي يتناوله ابن القَيِّم، وأهميته البالغة، فتجده يكرر الكلام فيه كلما وجد لذلك مناسبة، ومن أمثلة القضايا التي كرر الكلام فيها لشعوره بأهميتها وعظيم خطرها:
- قضية تحريم سماع الغناء وأضرار هذا المرض الشيطاني3.
- قضية الطلاق الثلاث بلفظ واحد4.
- الحِيَل وأحكامها، وبيان الِمُحَرَّم منها1.
إلى غير ذلك من القضايا التي كررها لأهميتها، وشدة الحاجة إليها.
2- وقد يقع التكرار منه استطراداً لفائدة عارضة؛ فقد كان الاستطراد من عادته رحمه الله، فَرُبَّمَا دَخَلَ في موضوع آخر غير موضوع البحث وتوسَّعَ في الكلام عليه جوداً منه بالعلم، وحرصاً على عدم تضييع الفائدة على القارئ والمتعلم.
3- وقد تدعوه الحاجة إلى ذكر موضوع كان قد ذكره في موضع آخر، فيُكَرِّرُهُ على سبيل الاختصار لِمَا أَفَاضَ فيه في ذلك الموضع، فنجده مرة يقول في كتابه (بدائع الفوائد)2 في مبحث له في الحب: "ولنقطع الكلام في هذه المسألة، فمن لم يشبع من هذه الكلمات، ففي كتاب (التحفة الْمَكِّيَّة) أضعاف ذلك".
ويقول - أيضاً - عند كلامه على الكيمياء في كتابه (مفتاح دار السعادة)3: "وقد ذَكَرْنَا بُطْلانَهَا وبيان فسادها من أربعين وجهاً في رسالة مفردة".
تلك أبرز العوامل التي قد تَحْمِلُه - رحمه الله - على التكرار لبعض الفوائد والمباحث، ولا شكَّ أن في ذلك التكرار - بهذه الصفة -
فوائد عديدة، أهمها: أن من لم يقف على ذلك البحث الْمُكَرَّرِ في كتاب لابن القَيِّم، فإنه لا يَفُوتُهُ في غيره من الكتب التي تكرر فيها.
وبعد، فهذه أبرز الخصائص وأهم السمات التي تميز بها أسلوب ابن القَيِّم - رحمه الله - ومنهجه في البحث والتأليف.

0 التعليقات

إرسال تعليق