| 0 التعليقات ]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده ، وعلى آله وصحبه ؛ وبعد:
اعتنى العلماء والباحثون بتراث الإمام ابن القيم رحمه الله فألفوا فيه التصانيف النافعة من مختصرات وشروحَ وتعليقات،ودراسةٍ لحياته وآثاره وفكره ومنهجه في التأليف؛وفيما يلي جمع لأبرز هذه الجهود



القرآن وعلومه




العقيدة
  • الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم تحقيق ودراسة – من قوله : فصل في تترية أهل الحديث…إلى قوله: فصل في السيرإلى الله. عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل
  • الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم تحقيق ودراسة –القسم الأول من بداية الكتاب إلى قول المؤلف: فصل في الإشارة إلى الطرق النقلية. محمد بن عبد الرحمن العريفي
  • الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم تحقيق ودراسة –القسم الرابع من قول المؤلف: ( فصل في السير إلى الله إلى آخر القصيدة-0 فهد بن علي المساعد
  • منهج ابن القيم في تقرير التوحيد، آمال بنت عبد العزيز بن محمد العمرو، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.
  • توضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح نونية ابن القيم للعلامة أحمد بن إبراهيم بن حمد بن عيسى النجدي(رحمه الله) (1253-1329هـ) تحقيقاً و تعليقاً عبد العزيز بن إبراهيم الجبرين
  • كتاب الروح لابن القيم بسام بن علي العموش
  • كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيمعلي بن محمد الدخيل الله
  • كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم ت / علي بن محمد العجلان
  • كتاب شفاء العليل لابن القيم –من أول الكتاب إلى نهاية الباب العشرين- أحمد بن صالح الصمعاني
  • ابن القيم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف، عبد الله محمد جار النبي، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
  • جهود ابن القيم في توضيح توحيد العبادة، عبدالله حاج علي منيب، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
  • ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف، عبد العظيم عبد السلام شرف الدين، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة.
  • الألفاظ المجملة وموقف شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم منهما للشيخ عبد السميع بن الشيخ عبد الأول لنيل درجة  العالمية "الماجستير"
  • جهود الإمام ابن القيم في تقرير توحيد الأسماء والصفات لد /وليد محمد العلي..
  • ابن القيم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف عبدالله محمد جار النبي، دكتوراة، أم القرى
  • منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى مشرف بن علي الحمراني الغامدي  ماجستير من جامعة أم القرى
  • جهود الإمامين ابن تيمية وابن قيم الجوزية في دحض مفتريات اليهود، سميرة عبدالله بناني، جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، رسالة ماجستير.
  • جهود الإمام ابن قيم الجوزية في تقرير توحيد الأسماء والصفات تأليف:وليد بن محمد بن عبد الله العلي 3 مجلدات(دكتوراه)
  • أسماء الله الحسني و صفاته العليا من كتب ابن القيم " لعماد زكي البارودي
  • جهود الإمام ابن القيم في تقرير مسائل الإيمان للباحث هشام بن خليل الحوسني
  • منهج ابن القيم في تقرير مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل من خلال كتابه شفاء العليل. عايض بن سعد  الدوسري   19 /9 /1425 جامعة الملك سعود
  • منهج ابن القيم في مناقشة ظاهرة التعطيل في الفكر الإسلامي.أحمد عبدالعزيز محمد القصير    18 /12 /1414 جامعة الملك سعود
  • منهج ابن القيم في تقرير مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل من خلال كتابه شفاء العليل.عايض بن سعد  الدوسري    19 /9 /1425هـ؛جامعة الملك سعود
  • منهج الاستدلال عند الإمام ابن القيم في دراسة مسائل الاعتقاد.خالد عبدالعزيز محمد السيف2 /3 /1423هـ.جامعة الملك سعود
  • موقف شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم من الألفاظ المجملة المتعلقة بأبواب التوحيد والقضاء والقدر(الماجستير)للباحث : عبد السميع عبد الأول
  • جهود الإمام ابن القيم في تقرير مسائل الإيمان باليوم الآخر و الرد على المخالفين(دكتوراه)للباحث عبد الله بن عبد المحسن آل الشيخ
  • جهود ابن القيم في توضيح أركان الإيمان الثلاثة الملائكة الكتب الرسل للباحث:ذياب بن مدخل العلوي



فرق وأديان

  • كتاب هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم محمد الشيخ أحمد محمود الحاج
  • موقف الإمام ابن القيم من آراء المتكلمين محمد سعيد صباح
  • بيان موقف ابن القيم من بعض الفرق، عوّاد عبد الله المقنف، رسالة دكتوراه، جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض
  • جهود الإمامين ابن تيمية وابن القيم في دحض مفتريات اليهود، سميرة عبدالله بناني، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى بمكة المكرمة
  • جهود الإمام ابن قيم الجوزية فى نقد اللاهوت اليهودى والنصرانى للباحث:محمود محمود إبراهيم النجيرى
  • بيان موقف ابن القيم من بعض الفرق للباحث:عواد عبدالله المقنف، دكتوراة، جامعة الإمام
  • بيان موقف ابن القيم من الصوفية، جامعة الإمام، كلية أصول الدين، قسم العقيدة
  • موقف ابن القيم من التصوف،جامعة أم القرىكلية الدعوة واصول الدين،قسم العقيدة

طرق الدعوة
  • منهج ابن القيم في الدعوة إلى الله تعالى، أحمد بن عبد العزيز الخلف، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
  • المناظرة عند ابن قيم الجوزية




الحديث وعلومه

  • ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها، جمال محمد السيد عبد الحميد، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية بالمدينة
  • الإمام ابن القيم وجهوده في الحديث، حسين محمد السيد، جامعة الأزهر، كلية أصول الدين
  • إتحاف العباد بالأحاديث التي تكلم عليها ابن القيم في زاد المعاد تأليف خالد الأنصاري تقديم فضيلة الشيخ الدكتور حاتم العوني من إصدارات دار طويق
  • أجوبة ابن القيم عن مختلف الحديث في كتاب الحج.علي بن عبدالرحمن العويشز.25 /11 /1426هـ    جامعة الملك سعود
  • ابن قيم الجوزية (751ه‍) وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها جمال محمد السيد عبد الحميد/دكتوراه/الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة/الحديث الشريف -1411ه‍
  • ابن القيم ومنهجه في نقد السنة/عبد الفتاح صديق/ماجستير/جامعة محمد الخامس - الآداب - الرباط/الدراسات الإسلامية- 1995
  • مصطلح الحديث عند الإمام ابن القيم/عبد الرحمن صالح عبد الله الصغير/ماجستير/جامعة الملك سعود/التربية - الثقافة الإسلامية- 1417ه‍
  • ابن قيم الجوزية (751هـ) وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها/جمال محمد السيد عبد الحميد/دكتوراه/الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة/الحديث الشريف - السنة-1411ه
  • فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم: تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها، من أول بيان الرسول أحكام الحياة والموت إلى نهاية فصل الجوار حديث لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره/حصة صالح العماري/ماجستير/جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/أصول الدين - السنة وعلومها
  • فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم: تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها، من أولها إلى نهاية فصل (في فتاويه وإرشاداته لبعض الأعمال)/ناصر بن إبراهيم العبودي/ماجستير/جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/أصول الدين - السنة وعلومها- 1411ه‍ـ
  • فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم: تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها، من أول فصل (فتاوى في أنواع البيوع) إلى نهاية(وذكر فصول من فتاويه صلى الله عليه وسلم في أبواب متفرقة)/لطيفة عبد الله الجلعود/ماجستير/جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/أصول الدين - السنة وعلومها- 1412ه‍ـ
  • مصطلح الحديث عند الإمام ابن القيم/عبد الرحمن صالح عبد الله الصغير/ماجستير/جامعة الملك سعود/التربية- 1417ه‍ـ‍



الفقه وأصوله





القواعد الفقهية




السياسة الشرعية





الأسرة والمجتمع





الاقتصاد الإسلامي

  • الفكر الاقتصادي عند ابن القيم ( مج1 - مج2 ) ، (رسالة ماجستير ) راشد أحمد العليوي،جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1410=1990 .




الفتيا

  • منهج ابن القيم في الفتيا تأصيلات وتطبيقات، إبراهيم بن يحيى بن عبدالله الزهراني، جامعة أم القرى بمكة المكرمة
  • فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم من كتاب أعلام الموقعين تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها من قوله (وقال صلى الله عليه وسلم :أتدرون ما الغيبة ؟ إلى نهاية الكتاب.فهد بن إبراهيم الشمسان،رسالة ماجستير،جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين



التربية والسلوك وتهذيب النفس

  • كتاب مدارج السالكين لابن القيم-دراسة وتحقيقا- من أول قوله : والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر إلى نهاية قول المؤلف: فصل قال صاحب المنازل الدرجة الثالثةت / علي بن عبد الرحمن القرعاوي
  • كتاب مدارج السالكين لابن القيم-دراسة وتحقيقا- من أول الكتاب إلى نهاية قول المؤلف: فصل مبدأ التوبة ومنتهاها ت / ناصر بن سليمان السعوي
  • كتاب مدارج السالكين لابن القيم-دراسة وتحقيقا- من قول المؤلف :( منزلة الذكر إلى نهاية قوله: باب التمكن0 ت / خالد بن عبد العزيز الغنيم
  • كتاب مدارج السالكين لابن القيم-دراسة وتحقيقا-من أول قول المؤلف :فصل منزلة الاستقامة إلى نهاية قوله:فصل منزلة الأنس بالله تعالى0 ت / صالح بن عبد العزيز التويجري
  • كتاب مدارج السالكين لابن القيم-دراسة وتحقيقا-من باب المكاشفة إلى آخر الكتاب0 ت / محمد بن عبد الله الخضير
  • ابن قيم الجوزية من أعلام التربية في تاريخ الإسلام
  • أعمال القلوب عند الإمام ابن القيم _ جمع ودراسة.    وفاء بنت زيد العزيري  1/ 5 /1425هـ؛جامعة الملك سعود
  • الأخلاق عند مسكويه وابن القيم - دراسة مقارنة،عبد الله بن محمد العمرو،دكتوراه،16 /9 /1415هـ؛جامعة الإمام محمد بن سعود
  • الداء والدواء المعروف بـ(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) لابن قيم الجوزية (ت751)، القسم الأول ، دراسة وتحقيق.    فتحية بنت علي القحطاني 1426
  • الداء والدواء المعروف بـ(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي )، لابن القيم ، القسم الثاني ، دراسة وتحقيق .    أمل بنت صالح المبدل.1426 جامعة الملك سعود
  • التصوف عند ابن القيم، سعاد علي عبدالرزاق، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس بمصر
  • أعمال القلوب عند الامام ابن القيم : جمع و دراسة / اعداد وفاء بنت زيد العزيزي
  • آراء ابن القيم التربوية، علي حسن الحجاجي، جامعة الإمام، كلية العلوم الاجتماعية، قسم التربية، دكتوراة
  • التربية الجسمية في الإسلام مع التركيز على كتاب الطب النبوي لابن قيم الجوزية، سمية عوض علي أبو إسحاق، جامعة أم القرى بمكة، كلية التربية، قسم التربية، 1408هـ، ماجستير
  • الفكر التربوي عند ابن القيم، حسن علي حسن الحجاري، جامعة الإمام محمد بن سعود، كلية العلوم الاجتماعية، قسم التربية وعلم النفس، 1407هـ، دكتوراة
  • المجموع القيم من كلام ابن القيم في الدعوة والتربية وأعمال القلوب،منصور بن محمد المقرن



السيرة النبوية والتاريخ

  • ابن قيم الجوزية منهجه ومروياته التاريخية في السيرة النبوية الشريفة، ياس خضير الحداد



اللغة وعلومها

  • ابن القيم وحسّه البلاغي في تفسير القرآن، د. عبد الفتاح لاشين
  • ابن قيم الجوزية جهوده في الدرس اللغوي، د. طاهر سليمان حموده
  • النحو عند ابن قيم الجوزيه /عبدالهادي محمد السقا - : ماجستير
  • معاني الادوات والحروف المنسوب لابن قيم الجوزيه : الجزء الاول : دراسه وتحقيق /اسماء محمد عساف العساف - : دكتوراه
  • ارشاد السالك الى حل الفيه ابن مالك لابن قيم الجوزيه /محمد بن عوض بن محمد السهلي - : دكتوراه
  • ابن القيم اللغوي لإبراهيم البقري من جامعة المنيا



حياته ومنهجه وآثاره





تحقيقات ومختصرات وشروح على مؤلفاته



الأدلة والفهارس

...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]

نُبْل أهدافه ونقاء آرائه

تَقَدَّمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قد عاش في بيئة يسودها كثير من الفساد الديني والأخلاقي، وتنتشر فيها عادات اجتماعية متردية، وتروجُ فيها أفكارٌ ونِحَلٌ منحرفةٌ مع انتسابها - زُوراً - للإسلام.
وشاء الله سبحانه وتعالى - وله الحمد - أن يشرح صدر ابن القَيِّم للمنهج الحق، وأن يريه الطريق المستقيم، وأن يُحَبِّبَ إلى قلبه التمسك بالكتاب والسنة دون سواهما.
وكان من توفيق الله - عزوجل - أن هيَّأ له أستاذاً فاضلاً، وعلماً شامخاً، وعالماً نِحْرِيراً مجاهداً، وهو: شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، الذي كان سبقه إلى سلوك هذا السبيل، فكان له - بعد توفيق الله - خير القدوة، ونعم المرشد؛ فقد لازمه ابن القَيِّم - رحمه الله - منذ عودته من الديار المصرية إلى دمشق سنة (712هـ)، إلى أن توفي الشيخ -رحمه الله- في سنة (728هـ)1، حتى صار من أصحب الناس له، وألصقهم به ومن أخصِّ تلاميذه والْمُقَرِّبِين إليه، ولقد تَمَكَّنَت محبةُ الشيخ من قلب تلميذه ابن القَيِّم رحمه الله، فكان لا يفارقه أبداً، حتى إنه كان محبوساً معه في القلعة إلى أن مات الشيخ رحمه الله.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


1- مِحَنُهُ:

لقد عشنا مع ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيئته التي نشأ وترعرع فيها، وعرفنا أحوال عصره ومجتمعه وما كان يسوده من سلبيات ومفاسد دينية أخلاقية، ورأينا كيف كان ابن القَيِّم- في ظل هذه الأوضاع السيئة- صاحب رسالة سامية، وأهداف نبيلة، ومبادئ إصلاحية يهدف من ورائها: إلى الرجوع بالناس إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة من التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات والتقليد والتعصب.
لكن طريقه هذا الذي سار فيه لم يكن سهلاً ميسوراً، بل كان محفوفاً بالمشاقِّ، فنزلت به بسبب ذلك محن عديدة، وتعرَّض لإيذاء واضطهاد وفتن أثناء جهاده لنشر دعوته، وسعيه لإصلاح حال مجتمعه.
فلم يكن من السهل على هذا المجتمع الذي سيطرت عليه الأفكار الدخيلة، وسادته البدع المتوارثة، أن يستجيب لهذا المصلح المجاهد الذي بزغ نوره في هذا الظلام الحالك، وكيف يتم له ذلك ولهذه البدع حُرَّاسٌ وحماةٌ من أمراء البلاد وحُكَّامها، بل ومن بعض الْمُنْتَسِبين إلى العلم أنفسهم؟!

...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]

نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له وثناؤهم عليه

تَقَدَّمَ - عند الكلام على أخلاقه وصفاته - ذكرُ طَرَفٍ من حاله في طلبه للعمل، وشدة محبته له، وجِدِّهِ واجتهاده في تحصيله ليلاً ونهاراً.
ولقد أثمر هذا الجهد المتواصل، وتلك المحبة الصادقة للعلم ودرسه، أطيب الثمار، فَنَبَغَ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في علوم عديدة، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وفاق في ذلك أَقْرانَهُ وأهلَ عصره، ولم يُر في وَقْتِهِ مِثْلُهُ.
ولقد شهد له تلاميذه ومعاصروه - بل وبعض شيوخه - بطول الباع، وعلو الشأن، وبلوغ الغاية في شتى العلوم وسائر الفنون، فلنذكر طرفاً من شهادات هؤلاء الأئمة وثنائهم عليه، ليعرف بذلك قدره، ومدى تقدمه وعلو شأنه، فمن ذلك:
1- قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي1: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه"2.
2- وقال شيخه المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه"3.
وهذا القول من المزي - على جلالته - يطابق بشارة شيخه ابن تَيْمِيَّة له - لَمَّا رآه في المنام - بأنه في طبقة ابن خزيمة، وقد تقدم ذكر ذلك1.
3- وقال الحافظ الذهبي: "الفقيه، الإمام، المفتي، المتفنن، النحوي"2. وقال أيضاً: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو وَيَدْرِيه، وفي الأصلين"3.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

شيوخه

إن من أهم العوامل التي تسهم بشكل كبير في التكوين العلمي للشخص: شيوخه الذين تلقى عنهم، واستفاد علومه منهم.
وقد يكون بعضهم أشدَّ تأثيراً في الطالب من البعض الأخر، وذلك بحسب نوع العلاقة القائمة بين الطالب وشيخه، ومدى ارتباطه به، وصحبته له، وغير ذلك من العوامل التي تميز شخصية الشيخ، وتؤثر بالتالي في الطالب الْمُتَلَقِّي.
وقد اعتنى أكثر الذين ترجموا لابن القَيِّم بسرد شيوخه على تفاوت بينهم في ذلك، فبينما حاول بعضهم استيعاب ذلك: كالصَّفَدِي مثلاً، نجد آخرين لم يذكروا له سوى شيخ واحد فقط، كابن كثير، واقتصر البعض على ذكر بعضهم.
وفي هذا المبحث أذكر شيوخ ابن القَيِّم الذين أخذ عنهم علومه وثقافته، مع إبراز دور كل واحد من هؤلاء الشيوخ في التكوين العلمي لابن القَيِّم، وذلك بمعرفة الفنِّ الذي أخذه عنه، أو الكتب التي قرأها عليه، مع التعريف بأولئك الذين كان ارتباط ابن القَيِّم بهم أكثر، وأثرهم فيه أكبر.
وأسوق هؤلاء الشيوخ على حسب الفنون التي تلقَّاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عنهم، فأذكر شيوخ كُلِّ فَنٍّ على حدة:

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

أَسْفَارُهُ وَرِحْلاتُهُ

إن مما ينبغي على طالب العلم أن يرحل عن وطنه إلى البلاد الأخرى، طلباً للعلم، وبحثاً عن الاستزادة منه، ورغبة في التحصيل والسماع من علماء البلدان الأخرى لما لم يسمعه في بلده، وقد كان هذا هو دأب السَّلف من علماء هذه الأمة، كما هو مُدَوَّن في أخبارهم.
فالمقصود من الرحلة - كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله - أمران:
"أحدهما: تحصيلُ علوِّ الإسناد، وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفَّاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة منهم".
قال رحمه الله: "فإذا كان الأمران موجودين في بلده، ومعدومين في غيره: فلا فائدة في الرحلة، أو موجودين في كل منهما: فَلْيُحَصِّل حديث بلده، ثم يرحل"1.
أمَّا الأمر الأول - وهو طلب علو الإسناد - فإنه كان مقصوداً أيام كان الاعتماد في الرواية على المشافهة والسَّمَاع، لِمَا للعلوِّ - في هذه الحالة - من فوائد جَمَّة، أما وقد دُوِّنَت الدواوين، وجُمِعت الأحاديث النبوية فيها، فإن الحاجة إلى طلب العلوِّ لم تعد مُلِحَّة، بل صار القصد من السماع والرواية في الأزمنة المتأخرة هو الْحِرْصُ على بقاء سلسلة الإسناد في الأمة.
ولذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن بحاجة إلى الرحلة طلباً لعلو الإسناد؛ إذ إنه قد عاش في عصر استقرار المدوَّنات الحديثية.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

أَعْمَالُهُ العلمية ومَنَاصِبُهُ

تَقَدَّم أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان صاحب رسالة سامية غالية، وأنه عاش حياته حاملاً أعباء تأدية هذه الرسالة على أتمِّ وجه.
فلا عجب إذن أن نجد ارتباطاً وثيقاً بين مهمة أداء هذه الرسالة والقيام بأعبائها من جهة، وبين الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم والوظائف التي تقلدها من جهة ثانية؛ إذ إن هذه الوظائف هي مجال تنفيذ هذه المهمة، ووسيلة تحقيقها.
فقد كانت هذه الأعمال وتلك المناصب منحصرةً في دائرة تبليغ العلم ونشره لا تخرج عن ذلك بحالٍ؛ فقد عاش حياته - رحمه الله - متصدراً "للاشتغال ونشر العلم"1.
ويمكننا حصر الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم رحمه الله، والوظائف التي كان يشغلها - في ضوء ما سَجَّلَتْهُ مصادرُ ترجمته - فيما يلي:
1- التدريس.
2- الإمامة.
3- الخطابة.
4- الإفتاء.
5- التأليف والتصنيف.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

تلاميذه

إن أهم الثِّمَار التي تُجْنَى من جهد أولئك العلماء الجهابذة: تخريج التلاميذ والطلاب الذين يحملون راية الخير والهداية لمن بعدهم، امتداداً لجهود شيوخهم ونشاطهم، وحلقةً في سلسلة متصلة متماسكة لا تنقطع.
وكلما تبوَّأ هؤلاء الطلاب مكانتهم بين أهل العلم العاملين، وأئمته البارزين، وجهابذته المشهورين، كان ذلك تعبيراً حقيقياً عن مكانَةِ شيوخهم الذين خَرَّجُوهم، وعلمِهِم، وفَضْلِهِم؛ فالطالب النابغ إنما هو - بعد فضل الله وتوفيقه - ثمرة يانعة من ثمار جهد الأستاذ وعطائه المتواصل، ولعلَّ في قول الحافظ ابن حجر المتقدم في حق ابن القَيِّم وشيخه ابن تَيْمِيَّة، حين قال: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية … لكان غايةً في الدلالة على عظم منزلته"1. لعلَّ في هذه الكلمة من ابن حجر - رحمه الله - ما يؤكد لنا هذه الحقيقة الظاهرة؛ إذ جعل الطالب النابغ، العالم، الفاضل منقبة من مناقب شيخه، وحسنةً من حسناته.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

ذكر مؤلفات ابن القَيِّم

وأحاول في هذا المبحث حصر مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، مع التعريف ببعضها، وذكر بعض الفوائد المتعلقة بها، وذلك كله على سبيل الاختصار والإيجاز، إلا فيما يحتاج الأمر فيه إلى زيادة بسطٍ وإيضاحٍ.
وقد قام الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - في هذا الجانب بجهد مشكور، فَحَرَّرَ ذلك تحريراً فائقاً، واستوعب الكلام على مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، معتمداً في ذلك على المصادر التي ترجمته، وما ظفر به من زيادات على ذلك من خلال مطالعته لكتب ومؤلفات ابن القَيِّم نفسه، فأفاد في ذلك وأجاد1.
وسَأُسَجِّلُ ما وقفت عليه من هذه المؤلفات، منبهاً على ما تدعو إليه الحاجة في أثناء ذلك، مع عدم ذكر الكتب التي لم يظهر عندي دليل صريح على نسبتها لابن القَيِّم رحمه الله، مرتباً ذلك على حروف المعجم:
1- (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية).
كذا سماه ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتاب (الفوائد)2 له، وسماه أيضاً: (اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية) وذلك في موضعين من كتاب (الصواعق المرسلة)3.
وسماه ابن رجب: (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية)1. والأمر في ذلك قريب، فكلها أسماء لكتاب واحد.
وموضوع الكتاب: إثبات علو الله - سبحانه - واستوائه على عرشه، وجمعُ الأدلة على ذلك: من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم، وبيانُ منهج أهل السنة في هذا الباب، والرد على من خالفهم من أهل التعطيل والتأويل. والكتاب مطبوع متداول.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

زهده وعبادته

إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانباً آخر- غير ما سبق - وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه.
فإن (من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - وبخاصة كتابه (مدارج السالكين) - يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم –رحمه الله تعالى– كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته.
وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه - لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح - ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس"1.
فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل.
نعم، لقد شَمَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ساعد الجد في العبادة ليلاً ونهاراً، حتى قال عنه أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وأصحبهم له - وهو الحافظ ابن كثير -: "ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه"1.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

أخلاقه وصفاته الشخصية

إن أول ما يلمسه المرء ويحسه - وبخاصة إذا كان ممن عَرَفَ ابن القَيِّم، وعاش مع تراثه الممتع النافع - أنه أمام عالم عامل، وداعية مخلص صادق، ومربٍ فاضل، أفنى عمره في محاربة كل شر ورذيلة، والدعوة إلى التخلق بكل خير وفضيلة.
فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - ممن يتكسبون بدعوتهم، أو يطلبون بها عرضاً زائلاً - كما كان حال البعض في عصره - وإنما كان صاحب رسالة سامية، عاش حياته مبلغاً لها ومنافحاً عنها.
فلا عجب إذن أن يكون على درجة عالية من الأخلاق الفاضلة، والخلال الحميدة، بشهادة كل من عايشه وسعد بصحبته، فقد كان (الغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة) كما وصفه بذلك تلميذه ابن كثير رحمه الله1.
كما لا يفوتنا التنبيه على أن هذه الأسرة الطيبة التي نشأ ابن القَيِّم بين أحضانها، وما لقيه منها من رعاية وحسن توجيه - وخاصة والده الذين قدمنا طرفاً من سيرته العطرة - كان لها أكبر الأثر في تحلي ابن القَيِّم - رحمه الله - بجميل العادات، ومحاسن الأخلاق، كما سبق التنبيه على ذلك.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


1- اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه:


هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز، الزُّرَعِي الأصل، ثم الدمشقي، الحنبلي، المشهور بابن قَيِّم الجوزية، شمس الدين، أبو عبدالله.
وقد اتفقت أكثر المصادر على الوصول إلى جده الثالث (حريز)1، بينما وقف بعضها عند جده الأول (أيوب)2.
وقد زاد الشيخ بكر أبو زيد في اسمه جَدّاً رابعاً، فقال: "... ابن حريز بن مكي زين الدين". وذكر الشيخ أنه قد تحصل له ذلك من ترجمة أخي ابن القَيِّم عبدالرحمن في (الدرر الكامنة)، حيث زاد فيه هذه الزيادة3.
وأما أبوه: فالجميع ذكروا أنه (أبو بكر)، لم يسمه أحد بغير ذلك، فعلى هذا تكون كنيته اسمه. ويؤكد ذلك: أن ابن القَيِّم نفسه في قصيدته الميمية في التضرع1لم يسم أباه إلا بأبي بكر، بل كان يكتب ذلك بخطه2.
وأما ضبط (حريز) - جده الأعلى- : فقد استظهر الشيخ بكر أبو زيد أنه: بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين، وبعدهما ياء منقوطة باثنتين من تحت، ثم الزاي المعجمة في آخره، على وزن (فَعِيل)، وأن هذا الضبط هو الأكثر والأشهر على ألسنة أهل العلم3.
وأما (الزُّرَعِيُّ): فنسبة إلى قرية (زرع) وقد ذكر ياقوت في (معجم البلدان)4 - نقلاً عن أبي القاسم الدمشقي-: أنها كانت تسمى (زُرَّا)، فقال: "علي بن الحسين. .. الزُّرِّي الإمام، من أهل زُرَّا، التي تدعى اليوم: زرع، من حوران"5.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

أسرته ونشأته الأولى

لاشك أن لأسرة الرجل وأهل بيته دوراً كبيراً في تكوينه الخُلُقِي، وتنشأته وتوجيهه، وذلك بحسب ما يكون عليه أفرادها من أخلاق وقيم وعادات، وبحسب ما يولون أولادهم من عناية ورعاية واهتمام.
فإن الأسرة التي يغلب على أفرادها الصلاح والتمسك بتعاليم الإسلام وتقوى الله عزوجل، ينشأ أولادها - في الغالب - كذلك، وإذا كان الأمر على خلاف ذلك، فقلَّ أن يرجى من أبناء هذه الأسرة خير.
من أجل ذلك، كان علينا - ونحن نصف حياة ابن القَيِّم - أن نتعرف على أسرته وأهل بيته، الذين كان لهم الفضل الأكبر - بعد الله سبحانه - في توجيهه الوجهة الصحيحة، وسلوكه طريق العلم وأهله.
ولم يتيسر لي الوقوف على شيء من أخبار هذه الأسرة عن طريق ابن القَيِّم نفسه؛ إذ لم يتعرض لشيء من ذلك - فيما أعلم - مثلما يفعل بعض العلماء، غير أنه أمكن التقاط بعض تلك الأخبار عن هذه الأسرة من خلال بعض الكتب التي تُعنى بالحوادث والتاريخ، وعلى رأسها: (البداية والنهاية) لابن كثير رحمه الله- تلميذ ابن القَيِّم، وصاحبه المقرب- فقد ذكر جملة من الأخبار عنهم، كما كان للشيخ الفاضل بكر بن عبدالله أبي زيد - حفظه الله - فضل السبق في ذلك؛ إذ ذكر طرفاً من أخبار هذه الأسرة المباركة1.

...تابع القراءة

| 2 التعليقات ]

لا شك أن هناك علاقة وثيقة، وصلة وطيدة بين المرء وبيئته التي عاش وترعرع فيها، وبين الصفات التي تميز شخصيته، ولذلك فإنه من الضروري عند دراسة شخصية من الشخصيات إلقاء الضوء على الزمان والمكان اللذين وُجِدت فيهما تلك الشخصية، وبخاصة أولئك الذين يعيشون أحداث عصرهم، ولهم صلة بمشكلاته، وعلى رأس هؤلاء: الدعاة، والمصلحون، والعلماء.

فكما أن لهؤلاء العلماء أثراً واضحاً في مجتمعاتهم وأهل عصرهم: تربيةً، وإصلاحاً، ونشراً للخير والفضيلة، فإن للعصر وأحداثه - أيضاً - تأثيراً بالغاً فيهم، وذلك من حيث: نوع المشكلات والأدواء التي يهتمون بمعالجتها، والطريقة التي يسلكونها في ذلك، وما يرونه أولى بصرف العناية إليه من غيره، وكذا من ناحية نظرة حُكَّام ذلك العصر للعلم وأهله، ومدى تجاوبهم مع رسالة العلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي لها أثر مباشر على أهل العلم ودعوتهم.
وقد رأيت أن يكون هذا الفصل مشتملاً على بيان لكل من: الحالة السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية لهذا العصر، وذلك ضمن مباحث أربعة:

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

ترجمة الإمام ابن القيم[1] ـ رحمه الله ـ

عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي

الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية

اسمه ونسبه :

أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زيد الدين الزُّرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية .

واشتهر ـ رحمه الله ـ بإبن قيم الجوزية [2].

وقيم الجوزية هو والده ـ رحمه الله ـ فقد كان قيما على المدرسة الجوزية بدمشق مدة من الزمن ، واشتهر به ذريته وحفدتهم من بعد ذلك ، وقد شاركه بعض أهل العلم بهذه التسمية [3].

وتقع هذه المدرسة بالبزورية المسمى قديما سوق القمح ، وقد اختلس جيرانها معظمها وبقي منها الآن بقية ثم صارت محكمة إلى سنة 1372هـ [4]

مولده ونشأته :

ولد في اليوم السابع من شهر صفر لعام 691هـ . قيل أنه ولد في زرع وقيل في دمشق .

عبادته وزهده :

قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ : وكان ـ رحمه الله تعالى ـ ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى ، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة ، والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له ، والإطراح بين يديه وعلى عتبة عبوديته ، لم أشاهد مثله في ذلك ولا رأيت أوسع منه علماً ، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه ، وليس بمعصوم ، ولكن لم أر في معناه مثله . وقد امتحن وأوذي مرات ، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه ولم يخرج إلا بعد موت الشيخ . وكان في مدة حبسه منشغلا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة ، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والدخول في غوامضهم وتصانيفه ممتلئة بذلك . ) [5]

وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه ، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا ، ويمد ركوعها وسجودها ، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك ـ رحمه الله تعالى ـ ) [6]

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

إن الحديث عن مؤلفات ابن القَيِّم يمس أهم جانب من جوانب النشاط العلمي في حياة هذا الإمام العالم العلامة، وذلك لما تَمَيَّزَت به مؤلفاتهُ من جوانب كثيرة مشرقة، فقد كان له فيها "من حُسْنِ التَّصَرُّفِ، مع العُذُوبَةِ الزَّائِدَة، وحُسْنِ السِّيَاق، ما لا يَقْدِرُ عليه غَالِبُ الْمُصَنِّفِيْنَ، بحيث تَعْشَقُ الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتُحِبُّهُ القلوب"1.
هذا إلى جانب الأهمية البالغة للموضوعات التي تناولها -رحمه الله- في مؤلفاته: من ترقيق للقلوب، ودعوة للعودة إلى صراط الله المستقيم ودينه الخالص، إلى غير ذلك من أهدافه السامية النبيلة التي احتوت عليها كُتُبُه.
ولأجل ذلك كله، كتب الله لمؤلفاته الذُّيُوعَ والانتشارَ، في سائر الأمصار والأقطار، واستمرار ذلك على مدى السنين والأعصار، مع محبة القلوب لها، وعِشْقِها لمطالعتها، بحيث لا ينفر منها إلا مقلد عصبي، أو مُبْتَدِع خُرَافِيٌّ.
ولعل خير ما يدل على مكانة مؤلفاته رحمه الله، ويؤكد أهميتها وانتشارها وكثرتها: تلك الشهادات التي سُجِّلَت بأقلام مترجميه، من معاصريه فمن بعدهم إلى أيامنا هذه، فمن تلك الأقوال:
1- قال أبو المحاسن الدمشقي: "ومصنفاته سائرة مشهورة"2.
2- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وله من التصانيف - الكبار والصغار - شيءٌ كثير"1. وقال عند ترجمته لوالده: "وهو والد العلامة شمس الدين صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية"2.
3- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم"3.
4- وقال زين الدين عبدالرحمن التفهني الحنفي (ت835هـ) في تقريظه لكتاب (الرد الوافر): "ابن قَيِّم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق"4.
5- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "له التصانيفُ الأنيقةُ، والتآليفُ التي في علوم الشريعة والحقيقة"5.
6- وقال المقريزي: "... وتصانيفه كثيرة"6.
7- وقال الحافظ ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف"7. وقال - أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر): "صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف"8.
8- وقال السخاوي: "... صاحب التصانيف السائرة"1.
9- ووصف الشوكاني مصنفاته بأنها: "التصانيف الحسنة المقبولة"2.
10- وقال الشطي: "صاحب التصانيف العديدة المشهورة شرقاً وغرباً، والتآليف المفيدة المقبولة عجماً وعرباً"3.
11- وقال الشيخ محمد بهجة البيطار: "صاحب الآثار الكثيرة الْمُحَرَّرَة"4.
تلك بعض أقوال الأئمة في الثناء على مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله، والإشادة بها، وبيان عِظَمِ شأنها وكبير فائدتها.


منهجُ ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مُؤَلَّفَاتِهِ

إن هذه الشهرة التي حققتها مصنفات ابن القَيِّم - بموجب شهادات أهل العلم التي سبق ذكرها- وهذه المكانة المرموقة التي تبوأتها، وهذا الثناء العاطر الذي نَالَتْهُ من الموافق والمخالف على السواء، إن ذلك كله لم يأت عفواً، وإنما كان نتيجة لخصائص وميزات اتسم بها منهجه - رحمه الله - في هذه المؤلفات، وجهدٍ جادٍّ مخلص في سبيل تحبيرها، وعناية فائقة في تحريرها.
ومن هذه الخصائص التي ظهرت لي ولم أقف على من نبّه على الكثير منها:
أولاً: التَّعَدُّدُ والتنوع الموضوعي في مؤلفاته:
لقد سبق الكلام على تضَلُّع ابن القَيِّم - رحمه الله - في فنون عديدة، وإتقانه علوم كثيرة، بحيث يصعبُ على الدارس أن يَحْكَمَ بتفوقه في جانب من العلوم دون بقيتها، فقد شُهِد له بالإمامة في كلِّ فنٍّ من هذه الفنون1.
ولعلَّ هذا الشمول الذي تَمَيَّزَ به ابن القَيِّم في معارفه قد ظَهَرَ جَلِيًّا في المنهج التأليفي عنده، ولذلك فقد عَالَجَتْ مؤلفاته فنون متعددة، وعلوم كثيرة: من فقه، وتفسير، وتوحيد، ولغة، وغير ذلك، فلم يكن نشاطُهُ التأليفي قاصراً على فن واحد.
ثم إن هذا التعدد في الموضوعات والفنون عند ابن القَيِّم ربما كان سمة مُمَيَّزَةً للكتاب الواحد من كتبه، فكتاب (زاد المعاد) - على سبيل المثال - يعد موسوعة شاملة لفنون عديدة: من سيرة، وفقه، وحديث، وغير ذلك.
ومع ذلك، فإن الغالب على المصنف الواحد من مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله: اتصافه بالوحدة الموضوعية، فنجد كتاب: (الصلاة)، و(الروح)، و(حادي الرواح)، و(الطرق الحكمية)، و( الصواعق المرسلة) وغيرها، نجدها يعالج كل منها موضوعاً واحداً، وقد يَرِدُ في أثناء الكتاب كلام خارجٌ عن الموضوع، فيكون ذلك من باب الاستطراد الذي يقتضيه المقام.
ثانياً: أهميَّةُ الموضوعات التي تَنَاوَلَهَا ابنُ القَيِّم بالتأليفِ، وَعِظَمُ قيمَتِهَا.
وقد كان ذلك نتيجةً حتميةً للأهداف التي نَذَر ابن القَيِّم نفسه لتحقيقها، والأوضاع التي عاش مجاهداً لتصحيح الخاطئ منها، فجاءت مؤلفاته - لأجل هذه الأهمية - لا غنى لطالب الحق عنها، ولا مناص للقلوب السليمة من مَحَبَّتِهَا.
فجاء كتابُهُ: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلة)، وكذا (اجتماع الجيوش الإسلامية) لتفنيد كثير من العقائد المنحرفة والمذاهب الفاسدة، وبيانِ المنهجِ الصحيح الذي كان عليه سلفُ هذه الأمة في باب العقائد.
وجاء كتابه: (حادي الأرواح) واصفاً الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين، مُشَوِّقاً لقارئه إلى السعي بجدٍّ لنيلها، والاجتهاد ليكون من أهلها.
وجاء كتاب: (الوابل الصيب) ليضع منهجاً متكاملاً للذكر والدعاء في حياة المسلم، الذي به حياة القلوب، وراحة النفوس.
وجاء كتابه: (الطُّرقُ الْحُكْمِيَّة) يُمَثِّلُ منهجاً فريداً للقاضي والحاكم فيما ينبغي مراعاته عند الحكم من القرائن والأَمَارَاتِ، وما يتعلق بذلك من الفِرَاسَة المَرْضِيَّة.
وهكذا بقية كتبه ومؤلفاته، ما منها كتابٌ إلا وهو يتناول من الموضوعات الْمُهِمَّة ما يحصل به سعادة العبد في دنياه وأُخْرَاه.
ثالثاً: وجود علاقة وثيقة بين الموضوعات التي تناولها بالتأليف، وبين أوضاع مجتمعه ومشاكل عصره.
فقد عاش ابن القَيِّم - كما مضى بيانه - متأثراً بأحداث عصره ومتيقظاً لواجبه تجاهها، ومن ثَمَّ جاءت أكثر مؤلفاته تعالج تلك المشاكل، وتضع الحلول لكثير من الأدواء الْمُسْتَحْكِمَة في المجتمع.
فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يُصَنِّفُ كُتُبَهُ يعيش بِمَعْزِلٍ عن أوضاع مجتمعه وقضاياه المهمة، مما جعل لكتبه أهمية خاصة بالنسبة لكثير من الناس.
رابعاً: اعتماده في الاستدلال لمسائله وقضاياه على الأدلة النَّقْلِيَّة من الكتاب والسنة.
فقد كان - رحمه الله - مُلْتَزماً ذلك في كل كتاباته، يستدل للمسألة التي يوردها من كتاب الله العزيز، ونصوص الحديث النبوي الصحيح، الذي "لا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة، والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، وكل الخيرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَنْ بَيْنَ المشرق والمغرب"1.
وقد مضى ذكر طرف من أقواله في وجوب اتباع نصوص الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما دون ما سواهما2.
خامساً: الاعتماد في الاستدلال على العقل الصريح إلى جانب النقل الصحيح.
فمع اعتماده - رحمه الله - في المقام الأول على نصوص الكتاب والسنة، فإنه لم ير مانعاً من الاعتماد على العقل الصحيح السوي، فإنه يرى "أن ما عُلِم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء، لا يُتَصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه"3.
ولذلك فإنه كثيراً ما يؤكد ضرورة الاستدلال بالعقل السويّ إلى جانب النقل، فيقول عند الاستدلال على أن الروح قائمة بذاتها: "ولا يمكن جواب هذه المسألة إلى على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة القرآن، والسنة، والآثار، والاعتبار، والعقل"4.
وقال جواباً عن شُبَه القائلين بنفي الحكمة والتعليل: "الجواب الثاني عشر: أن يقال: العقل الصريح يقضي بأن من لا حِكْمَةَ لفعله، ولا غاية يَقْصِدُهَا به أَوْلَى بالنقصِ..."5.

سادساً: التَّدَرُّجَ في سِيَاقِ الأدلَّةِ النقلية، وتَرْتِيبُهَا حَسْبَ مَكَانَتِهَا وَأَهَمِّيَتِهَا:
فنجده - رحمه الله - في كثير من كتبه: يبدأ في الاستدلال للمسألة بسياق نصوص القرآن، ثم يُتْبِعها بنصوص السنة، ثم أقوال الصحابة، وهكذا.
ولعل أبرز مثالٍ على تطبيقه لهذا المنهج هو كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ؛ فقد بناه كله على هذه الطريقة، فأخذ في الاستدلال على استواء الله سبحانه:
- بنصوص القرآن أولاً.
- ثم بالأحاديث الصحيحة الثابتة.
- ثم بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
- ثم بأقوال التابعين.
- ثم بأقوال أتباع التابعين، إلى الأئمة الأربعة فمن بعدهم.
سابعاً: التَّحَرُّرُ في تَآلِيفِهِ مِن التَّبَعِيَّةِ لِمَذْهَبٍ أو رأيٍ مُعَيَّنٍ يخالفُ الكتاب والسنة.
ولعلَّ فيما تقدم من كلام على شدة تمسكه بالدليل، والدعوة إلى الاحتكام إليه دون غيره ما يؤكد هذا المعنى.
فابن القَيِّم وإن دَرَسَ المذهب الحنبلي وبَرَعَ فيه، إلا أنه لم يكن بالذي يَتَقَيَّدُ بمذهب إمامه على حساب الدليل، كيف وقد كان حَرْبَاً على التقليد والتعصب المذهبي؟
وقد أحسن الإمام الشوكاني - رحمه الله - وصفه بقوله: "وليس له على غير الدليل مُعَوَّلٌ في الغالب، وقد يميل نادراً إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يَتَجَاسَر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من الْمُتَمَذْهِبِيْنَ، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال"1.
ولقد حَذَّرَ هو - رحمه الله - من خطورة الفتوى وفق مذهب يعلم المفتي أن دليل غيره أرجح من مذهبه الذي أفتى به، وَعَدَّ ذلك خيانة لله ورسوله، وغِشَّاً في الدين، فقال - رحمه الله - عند ذكره فوائد وإرشادات للمفتين: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه: أن يُفتي السائل بمذهبه الذي يُقَلِّدُه، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً... فيكون خائناً لله ورسوله وللسائل، وغاشاً له".
ثم يؤكد - رحمه الله - هذا المعنى مبيناً التزامه ذلك في نفسه، فيقول: "وكثيراً ما تَرِدُ المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤْخَذَ به"2.
ومن تَصَفَّحَ كتب ابن القَيِّم وَجَدَ له جملةً من الاختيارات على غير مذهب الحنابلة، ومناقشته له في بعض القضايا، مُرَجِّحَاً غيره عليه بالدليل.
ثامناً: طولُ النَّفَسِ فيما يكتب، والتَّوَسُّعُ في استقصاء جوانب البحث واستيفاء مقاصده.
وهذه السِّمَة من أهمِّ ما يلفت النظر ويسترعي الانتباه في مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك من تمام نصحه، وكمال حرصه على تبليغ الخير ما استطاع، فَيُبَالِغُ في البسط والبيان، وهو دالٌّ في الوقت نفسه على ما تقدم بيانه: من طول باعه في العلم، ورسوخ قدمه فيه، وعمق معرفته، وصبره في سبيل إيصال الفكرة، وتثبيت الحجة، وإقرار الصواب والحق.
ويُصَوِّرُ الحافظ ابن حجر هذه الميزة في مؤلفات ابن القَيِّم، فيقول: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يَتَعَانَى الإيضاح جُهْدَهُ، ويسهب جداً"1.
وقال الإمام الشوكاني واصفاً ذلك: "وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وَطَوَّلَ ذُيَولهُ أتى بما لم يأت به غيره"2.
ولنذكر مثالاً على ذلك: عند سياقه - رحمه الله - حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم على صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، واختار القول بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً، وأخذ في تقرير ذلك، وسياق الأدلة عليه، والرد على المخالفين وتفنيد حججهم، فاستغرق ذلك أربعين صفحة، ثم قال: "ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم..."3.
ولا أجدني محتاجاً إلى إيراد المزيد من الأمثلة في هذا الصدد؛ فإن ذلك كثير في مؤلفاته رحمه الله لا يكاد ينحصر.
تاسعاً: حُسْنُ الترتيبِ والتبويبِ والعَرْضِ للمعلومات التي يُضَمِّنُهَا كتبه وتواليفه:
تمتازُ مصنفاتُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الكثير الغالبِ - بحسن الترتيبِ والتقسيمِ للمادة التي تحتويها، الأمر الذي يجعلُ لمؤلفاته جَاذِبِيَّةً خاصةً، يشعر بها القارئ وهو يتنقل من باب إلى باب، ومن فصل إلى فصل.
وليُنظَرْ على سبيل المثال: كتابه (حادي الأرواح)، فقد قسمه إلى سبعين باباً، مرتباً إياها ترتيباً بديعاً، مع الترابط والتجانس بينها، بحيث يُسْلِمُكَ كل باب إلى الذي بعده في تسلسل ممتع، هذا عدا الفصول التي تشتمل عليها بعض الأبواب.
عاشراً: حلاوةُ الأسلوبِ، وجمالُ العبارةِ، وعذوبةُ الْمَنْطِقِ، وحسنُ البيان.
وهذه ميزة أخرى تُزَيِّن مؤلفات ابن القَيِّم، فتُبْهرُ العقول، وتأخذ بمجامع القلوب. ولعل ذلك هو ما عبَّر عنه الشوكاني - رحمه الله - بقوله: "وله من حسن التصرفِ، مع العذوبةِ الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ الْمُصنِّفِين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب"1
وهذا الجمال الأخَّاذُ، وتلك العذوبة الزائدة إذا اجتمع إليهما: عُمْقُ الفكرة، ونبلُ الهدف، وصدق الرغبة في إيصال الخير للخلق، عُرِفَ سر هذا الْحُبِّ الْمُتَمَكِّنِ من القلوب لمؤلفاته رحمه الله.
حادي عشر: الاعتماد كثيراً على الأحداث والوقائع التاريخية، مع قوة الاستحضار لها، وبراعة الاستشهاد بها.
فلم يكن ابن القَيِّم - وهو يكتب - بمعزل عن وقائع التاريخ الإسلامي وأحداثه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومَنْ بَعْدَهُم، بل كان يستحضر من ذلك الشيء الكثير، ويحشد منها القدر الكبير، تأييداً لفكرة، أو تأكيداً لمعنى يريد تقريره.
تكلم مرة عن الشجاعة، والفرق بينها وبين القوة، وأن الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أشجع الأمة - بهذا المفهوم - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال - رحمه الله - في بيان ذلك: "ولو لم يكن إلا ثباتُ قَلْبِهِ يومَ الغار وليلتِهِ، وثباتُ قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُك ربك، فإنه منجز لك ما وَعَدَك، وثباتُ قلبه يوم أحد وقد صَرَخَ الشيطان في الناس بأن محمداً قد قُتِلَ... وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قَلِقَ فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصديق لَيُثَبِّتُهُ، وَيُسَكِّنُهُ، وَيُطَيِّبُهُ،وثبات قلبه يوم حنين حين فرَّ الناس وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزلزل لها الجبال، وعقرت لها أقدام الأبطال... وخرج الناس بها من دين الله أفواجاً... وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام... فَشَمَّرَ الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خَوَّار... فَثَبَّتَ الله بذلك القلب - الذي لو وُزِنَ بِقُلوب الأمة لرجحها - جيوش الإسلام، وَأَذَلَّ بها المنافقين والمرتدين"1.
والأمثلة على استشهاده بالوقائع والحوادث الماضية - بهذا التسلسل الشيق، والعرض الممتع - كثيرة جداً بين ثنايا كتبه.
ثاني عشر: الاستعانةُ بالتجاربِ الخاصَّةِ، والخبرةِ الشخصية في دَعْمِ أَفْكَارِهِ، وتأييدِ آرائِهِ.
فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يُسَجِّلُ تجاربه الخاصة وخبرته الشخصية في أثناء كتاباته، وذلك تأييداً لفكرة ما، وزيادة في إيضاحها، وتوفيراً لأكبر قَدْرٍ من اليقين لناظِرِهَا ومُطَالِعِهَا.
يقول - رحمه الله - عند كلامه على تَمَكُّنِ الأرواح الشيطانية من الأجسام في حالات معينة، وأنها تُدفَع بالأذكار، والأدعية، والابتهال الذي يستجلب من الأرواح الْمَلَكِيَّةِ مَا تَقْهَرُ به هذه الأرواح الخبيثة، قال: "وقد جَرَّبْنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قُرْبِهَا تأثيراً عظيماً..."2.
وقال عند كلامه على الاستشفاء بماء زمزم: "وقد جَرَّبْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمرض، فبرأتُ بإذن الله"1.
ثالث عشر: التَّواضُعُ الجَمُّ، وهضمُ الذَّاتِ، وإسنادُ ما يُفْتَحُ به عليه من فوائد إلى فضلِ الله وتوفيقه وتأييده.
وقد مضى ذكر شيء من الأمثلة لذلك عند الكلام على أخلاقه2، ويُلاحِظُ ذلك كل من يطالع كتبه.
رابع عشر: تَحَرِّي الدِّقَّةِ في النقل عن الآخرين، وبخاصة ما كان من ذلك مشافهة.
فنجده - رحمه الله - يحرص على توثيق هذا النقل بما لا يدع في نفس القارئ أدنى شك في صدق ناقله.
فيقول مرة: "ولقد أخبر بعض الصادقين..."3. وقال في مناسبة أخرى: "وحدثني صاحبنا أبو عبدالله محمد بن مساب السلاهي - وكان من خيار عبادالله، وكان يَتَحَرَّى الصدق - قال..."4.

خامس عشر: الحرصُ على تحرِيرِ القول في المسائلِ المختلف فيها، وبيان الراجحِ من ذلك.
فقد جرت عادة ابن القَيِّم - رحمه الله - في أكثر مؤلفاته: أن يَعْرِضَ آراءَ كلِّ فريقٍ في المسائل الْمُخْتَلفِ فيها، مع ذكر أدلة كل فريق، وتحليل ذلك كله ومناقشته، وبيان الراجح من المرجوح، والصواب من الخطأ. ويكون ترجيحه - رحمه الله - لما تدعمه الأدلة، وتؤيده البراهين.
يقول - رحمه الله - في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تكون كالصلاة على إبراهيم عليه السلام1، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم؟ قال: "ونحن نذكر ما قاله الناس في هذا، وما فيه من صحيح وفاسد"2.
ويقول في مسألة الهوي إلى السجود - بعد أن ذكر أقوال الفريقين وأدلتهم -: "والراجح البداءة بالركبتين لوجوه..."3.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
سادس عشر: التَّلَطُّفُ مع الْخَصْمِ، والحرصُ على إيصالِ الخير إليه، وحصولُ الهدايةِ والانتفاعِ له.
فقد عُلِمَ كثرة الخصوم ابن القَيِّم - رحمه الله - من أعداء السنة، والحاقدين على أهلها، ومع ذلك فإن ابن القَيِّم كان حريصاً في كتاباته على الأخذ بيد الضال منهم، وإرشاده إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
ويَوَضِّحُ - رحمه الله - هذا الحرص في مقدمة كتابه (شفاء العليل)1 فيقول: "فيا أيها المتأمل له، الواقف عليه: لك غُنْمُه وعلى مؤلفه غُرْمُه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تَعْجَل بإنكارِ ما لم يَتَقَدَّم لك أسبابُ معرفَتِهِ، ولا يَحْمِلَنَّكَ شنآنُ مؤلِفِهِ وأصحابه على أن تُحْرَمَ ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تَظْفَرُ بها في كتاب، ولعلَّ أكبر من تُعَظِّمُهُ ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها".
فانظر إلى حرصه - رحمه الله - على إيصال نور الهداية إلى مَبْغِضِه وإلى كل من لعله في نفسه شيء عليه.
ومن هذا أيضاً: ما تَقَدَّمَت الإشارة إليه من مناظراته لبعض أهل الكتاب، وما كان من دعوتهم في آخر هذه المناظرات إلى الدخول في الإسلام، دين الهداية والرشاد.
سابع عشر: دِقَّتُهُ - رحمه الله - في اختيار الأسماء والعناوين لكتبه، ومراعاة التطابق بين الاسم والمضمون.
وهذا يلاحظه كل من نظر كتبه وتأملها، وطابق بين اسمها وما بداخلها، مع تَفَنُّنِهِ - رحمه الله - في اقتناء هذه الأسماء: قوةً ورقةً، ترهيباً وترغيباً إلى غير ذلك.
فنجده يختار اسماً رقيقاً جميلاً عندما يريد الكلامَ عن الجنة ونعيمها، والترغيب فيها، وإثارة الشوق إليها، وشحذ الهمم للاستعداد لها، فيقول: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
وقد نصَّ - رحمه الله - على مطابقة اسمه لمضمونه، فقال في مقدمته: "وسميته: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فإنه اسم يطابق مُسَمَّاه، ولفظٌ وافق معناه"1. وقريب من ذلك: (روضة المحبين).
بينما نجد لَهْجَتَهُ تشتدُّ - وقد أعلنَ الحربَ على أتباع الفلاسِفَةِ والْمُتَكَلِّمِينَ، من أهلِ التأويل والتعطيل - فيختارُ لذلك عنواناً قوياً مُدَوِّيَاً، يُوحي بتوجيه ضربات موجعة إلى أعداء عقيدة السلف، فيقول: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلَة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلَةِ)، ويقول أيضاً: (اجتماعُ الجيوش الإسلامية على غزوِ المعطلة والجهمية).
وهكذا نجد هذا التناسب بين الاسم والْمُسَمَّى هو الغالب على سائر كتبه، مع الجمال والبلاغة في غالب هذه الأسماء.
ثامن عشر: وقوعُ التِّكْرار في مؤلفاته.
يلاحظ الناظر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - تكرار الكلام على الموضوع الواحد في أكثر من كتاب من كتبه، وقد يكون تكرار ذلك بلفظه وحروفه، وقد يكون بالمعنى دون الاتفاق في اللفظ والعبارة.
وستأتي عند دراسة الأحاديث التي تكلم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة لذلك، فكان يُكَرِّرُ الكلام على الحديث في مناسبات عديدة1، وكذا كان شأنه في كثير من القضايا الفقهية، والتفسيرية وغير ذلك.
يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: "انتقد بعض الكاتبين ظاهرة التكرار في مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله تعالى... ولكن عند الفحص الدقيق والنظر العميق يتبين للناظر أن هذا ليس من مواضع النقد ولا من مواطن العتب، بل هي ميزة هامة وظاهرة محمودة"2.
ثم ذكر - حفظه الله - قضية التكرار في الكتاب والسنة ومؤلفات سلف الأمة، وَحِكَمَ ذَلِكَ وَأَسْرَارَهُ وفوائِدَهُ.
وابن القَيِّم - رحمه الله - يلجأ للتكرار لأسباب عديدة وفوائد كثيرة، وعلى رأس هذه الأسباب وتلك الفوائد ما يلي:
1- خطورة الموضوع الذي يتناوله ابن القَيِّم، وأهميته البالغة، فتجده يكرر الكلام فيه كلما وجد لذلك مناسبة، ومن أمثلة القضايا التي كرر الكلام فيها لشعوره بأهميتها وعظيم خطرها:
- قضية تحريم سماع الغناء وأضرار هذا المرض الشيطاني3.
- قضية الطلاق الثلاث بلفظ واحد4.
- الحِيَل وأحكامها، وبيان الِمُحَرَّم منها1.
إلى غير ذلك من القضايا التي كررها لأهميتها، وشدة الحاجة إليها.
2- وقد يقع التكرار منه استطراداً لفائدة عارضة؛ فقد كان الاستطراد من عادته رحمه الله، فَرُبَّمَا دَخَلَ في موضوع آخر غير موضوع البحث وتوسَّعَ في الكلام عليه جوداً منه بالعلم، وحرصاً على عدم تضييع الفائدة على القارئ والمتعلم.
3- وقد تدعوه الحاجة إلى ذكر موضوع كان قد ذكره في موضع آخر، فيُكَرِّرُهُ على سبيل الاختصار لِمَا أَفَاضَ فيه في ذلك الموضع، فنجده مرة يقول في كتابه (بدائع الفوائد)2 في مبحث له في الحب: "ولنقطع الكلام في هذه المسألة، فمن لم يشبع من هذه الكلمات، ففي كتاب (التحفة الْمَكِّيَّة) أضعاف ذلك".
ويقول - أيضاً - عند كلامه على الكيمياء في كتابه (مفتاح دار السعادة)3: "وقد ذَكَرْنَا بُطْلانَهَا وبيان فسادها من أربعين وجهاً في رسالة مفردة".
تلك أبرز العوامل التي قد تَحْمِلُه - رحمه الله - على التكرار لبعض الفوائد والمباحث، ولا شكَّ أن في ذلك التكرار - بهذه الصفة -
فوائد عديدة، أهمها: أن من لم يقف على ذلك البحث الْمُكَرَّرِ في كتاب لابن القَيِّم، فإنه لا يَفُوتُهُ في غيره من الكتب التي تكرر فيها.
وبعد، فهذه أبرز الخصائص وأهم السمات التي تميز بها أسلوب ابن القَيِّم - رحمه الله - ومنهجه في البحث والتأليف.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]

من المهم - عند تناول مؤلفات ابن القَيِّم - أن نتعرف على المصادر التي اعتمدها في كتبه، ونقل عنها في بحوثه؛ فإن نظرةً فاحصةً في قائمة مصادره تبرز لنا أهم الخصائص التي تميز حياة ابن القَيِّم العلمية وكتاباته.
ويمكننا أن نتناول في هذا المبحث المتعلق بالمصادر المسائل الآتية:
المسألة الأولى: منهجه في النقل عن المصادر، وأهم الخصائص المميزة لمصادره.
يمكن تحديد المعالم الأساسية لمنهج ابن القَيِّم في تعامله مع المصادر، وأهم السمات التي تميزت بها مصادره فيما يلي:
أولاً: وفرة مصادره وكثرتها، إذ بلغت مصادره في كتاب واحد- وهو (زاد المعاد)-: ثمانين ومائة مصدر تقريباً1، أما عدد المصادر التي وردت في مجلد واحد من (الصواعق المرسلة) فقد بلغت حوالي مائة كتاب2.
ثانياً: تنوع مصادره رحمه الله، وشمولها فنون عديدة، وما ذلك إلا لتنوع معارفه، وتصنيفه في أكثر من فنٍّ كما مضى.

ثالثاً: اعتماده في كل فن على أشهر وأهم وأجود ما كُتِبَ وصُنِّفَ فيه، يلحظ ذلك كل من تعامل مع كتبه، أو طالع قائمة مصادره.
رابعاً: لم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقل مادته العلمية بالمصادر المكتوبة فقط، بل رُبَّمَا دَوَّنَ بعض المعلومات بطريق المشافهة والسماع.
فيقول مرة: "سألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبدالله عن أبي هريرة؟"1. ويقول مرة أخرى: "قُرئَ على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في (التهذيب) وأنا أسمع"2.
خامساً: من المصادر التي اعتمد عليها ابن القَيِّم في تسجيل معلوماته أيضاً: المشاهدة والملاحظة والتجارب الشخصية، كما مضت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الكلام على منهجِهِ في التأليف3.
سادساً: حِرْصُهُ - رحمه الله - على توثيق ما يَنْقُلُه من معلومات من هذه المصادر، حتى إنه ليراجع للكتاب الواحد عدة نسخ عندما يقتضي الأمر ذلك.
قال مرة في حديث: "وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا"4. ويقول في حديث آخر: "هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة عنه..."5.
سابعاً: قد يُسَمِّى بعض المصادر بغير ما اشتهرت وعُرِفَت به، فيقول في (سنن أبي داود): "وقال أبو داود في مسنده"1. ومرة يقول: "رواه أبو داود في صحيحه"2. وكذا قال للدارمي مرة: "قال الدارمي في صحيحه"3. وقال مرة: "رواه ابن الجارود في مسنده"4. وقال عن كتاب (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: "اختلاف الحديث"5.
وهذا وإن كان قليلاً في كلام ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن فيه نظراً؛ وذلك من الناحية الفَنِّيَّة الصناعية، وكذا من ناحية احتمال وقوع بعض اللبس للناظر في ذلك، وإن كان قد دَرَجَ عليه كثير من أهل العلم في مؤلفاتهم.
ثامناً: يختصر ابن القَيِّم - رحمه الله - في كثير من الأحيان اسم المصدر، أو يشير إليه بموضوعه، الأمر الذي يحتاج من الناظر في كتبه إلى دراية بالكتب ومؤلفيها وموضوعاتها؛ وذلك ليمكنه معرفة الكتاب المقصود.
ومن الأمثلة لما جاء عنه في ذلك: قوله: "روى الدارمي في النقض"6 ويقصد به كتاب (النقض على بشر المريسي). وقال مرة:"قول الإمام أبي القاسم الطبري اللالكائي… في كتابه في السنة"1. واسم كتابه كاملاً: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة). وقال مرة: "وقال أبو حاتم البُسْتِي في كتاب الضعفاء"2 واسم الكتاب كاملاً: (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين)، وهذا الصنيع اشتهر - أيضاً - عند كثير من الأئمة، يفعلونه اختصاراً.
تاسعاً: لم يلتزم ابن القَيِّم بذكر اسم المصدر الذي ينقل عنه دائماً، بل إنه كثيراً ما يُسَمِّي الشخص الذي ينقل عنه دون تعيين اسم كتابه، وسيأتي ذكر طرف من ذلك عند الكلام على منهجه في التخريج.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله: "قال محمد بن عثمان الحافظ"3. وقوله مرة: "قال الحازمي"4. وقوله: "قال الرازي"5. وهذا كثير منه، ومعلوم أن هذا قد يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى المصدر المقصود، وبخاصة إذا كان الْمُؤَلِّفُ المشار إليه له أكثر من كتاب في الفن، كالذهبي مثلاً؛ فإن له عدة كتب في الرجال.
كما أنه - رحمه الله - رُبَّمَا نقل بعض الفوائد دون تعيين اسم المصدر أو المؤلف.
على أن ابن القَيِّم قد يكون معذوراً في ذلك؛ إذا قد عُرِفَ بالدقة في النقل، مع بسط مسائله وشدة تحريرها، بحيث إنه - رحمه الله - لم يُبْقِ للقارئ والمطالع حاجةً للرجوع إلى أصوله التي نقل عنها، على أن هذا الصنيع - أيضاً - عُرِف عن كثير من الأئمة الأعلام في مصنفاتهم وتواليفهم.
عاشراً: عِنَايَتُه - رحمه الله - بالمصادر التي تَتَّصِلَ بموضوعه اتصالاً مباشراً، وإِكْثَارُهُ من النقل عنها، بحيث تكون هي المصادر الأساسية لذلك الموضوع.
فتجده في (جلاء الأفهام) - الذي يتناول فيه موضوع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ من النقل عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )1 لإسماعيل بن إسحاق، حتى إنه قد ينقل عنه باباً بكامله2. وينقل فيه أيضاً عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ) لأبي الشيخ3، ولابن أبي عاصم أيضاً4، وغيرهم.
وكذا الحال في سائر كتبه، فإنه يُعنى في المقام الأول بالمصادر المصنفة في موضوع كتابه، أو التي لها به صلة مباشرة.
حادي عشر: ربما يلجأُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويم بعض المصادر التي ينقل منها، وإبداء رأيه فيها، وسيأتي الكلام على ذلك بأوسع من هذا.
تلك أبرز الملاحظات حولَ منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من المصادر والنقل عنها، وبيان بعض الخصائص المميزة لبعض هذه المصادر.
المسألة الثانية: تقويم ابن القَيِّم لبعض مصادره، وإبداء رأيه فيها.
لم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يستفيد من هذا العدد الهائل من المصادر المتنوعة، مُجَرَّدَ ناقلٍ فحسب، وإنما بَرَزَتْ في بعض الأحيان شخصيته المتميزة وهو يُبْدي رأيه في بعض هذه المصادر: بمدحها والثناء عليها تارةً، وتارةً أخرى ببيانِ عيوبها وبعض المآخذ عليها، وتارةً ثالثة بالتعريف بها أو ذكر بعض المعلومات التوضيحية عنها، أو الفوائد المتعلقة بها.
فمن الكتب التي مَدَحها وأَثْنَى عليها:
1- (سنن أبي داود):
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لما كان سنن أبي داود... من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حَكَمَاً بين أهل الإسلام... فإنه جَمَعَ شَمْلَ أحاديث الأحكام، وَرَتَّبَهَا أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطِّرَاحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"1.
ولعل قوله رحمه الله باطراح أبي داود أحاديث المجروحين والضعفاء، يُحْمل على الغالب؛ فقد وُجِدَ بَعْضُهُم في كتابه.
2- (الأحاديث الجِيَادُ الْمُخْتَارَة): للضياء المقدسي (ت643هـ).
قال ابن القَيِّم: "… التي هي أصح من صحيح الحاكم"1.
3- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفسوي (ت277هـ).
قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب جليل، غزير العلم، جمُّ الفوائد"2.
4- (تفسير البغوي) للحسن بن مسعود البغوي (ت516هـ).
قال ابن القَيِّم: "… الذي هو شَجَىً3 في حُلُوق الْجَهْمِيَّة والْمُعَطِّلَة"4. وقال أيضاً: "… الذي اجتمعت الأمة على تلقِّي تفسيره بالقبول، وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير"5.
5- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم (ت224هـ).
قال ابن القَيِّم: "الذي هو لمن بعده من كتب الغريب إمام"6.
6- ( السنة): وهو (شرح أصول اعتقاد أهل السنة). لأبي القاسم اللالكائي.
قال ابن القَيِّم: "وهو من أجلِّ الكتب"1.
7- (الرد على الجهمية):
8- ( النقض على بشر المريسي): كلاهما لعثمان بن سعيد الدارمي.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكتاباه من أَجَلِّ الكتب الْمَصَنَّفَةِ في السنة وَأَنْفَعِهَا، وينبغي لكل طالب سُنَّةٍ مراده الوقوفُ على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كِتَابَيْهِ، وكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة -رحمه الله- يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جداً"2.
9- (فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات): لأبي العباس المظفري.
قال ابن القَيِّم: "وهو - على صِغَرِ حجمه - كتابٌ جليلٌ، غزير العلم"3.
10- (أقسام اللَّذَّات): لفخر الدين الرازي.
قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب مفيد"4.

ومن الكتب التي انتقدها وبيَّنَ بعض المآخذ عليها:
1- (سنن ابن ماجه):
قال ابن القَيِّم في حديث: «من مات مريضاً مات شهيداً": "من أفراد ابن ماجه، وفي أفرادِهِ غَرَائبُ ومُنْكَراتٌ"1. ونقل كلاماً في هذا المعنى عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي2.
2- (المستدرك): للحاكم.
قال يرد على الحاكم في حكمه على حديث بأنه على شرط سلم وليس هو كذلك: "وهذا وأمثاله هو الذي شَانَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ، وجعل تَصْحِيحَهُ دون تحسين غيره"3.
3- (حقائق التفسير): لأبي عبدالرحمن السُّلمي (ت 412هـ).
قال ابن القَيِّم: "… التفاسير المستنكرة المستكرهة، التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يَتَعَارَفُهُ النَّاس؛ كَحَقَائِق السُّلَمي وغيره، مما لو تُتُبِّعَ وبُيِّنَ بُطلانه، لجاءَ عِدَّة أسفار كِبَار"4.
ومن المصادر التي ذكر معلومات تعريفية إيضاحية عنها:
1- (مسند الإمام أحمد):
قال رحمه الله: "الإمام أحمد لم يشترط في مسنده الصحيح ولا التزمه، وفي مسنده عِدَّة أحاديث سُئِل هو عنها، فَضَعَّفَهَا بعينها وأَنْكَرَهَا"1.
2- (الكامل في ضعفاء الرجال): لأبي أحمد بن عَدِيّ (ت365هـ).
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهو إنما يذكر فيه غالباً الأحاديث التي أُنْكِرَت على من يذكر ترجمته"2.
3- (خصائص المسند): لأبي موسى المديني.
قال: "وقد صَنَّفَ الحافظ أبو موسى المديني كتاباً ذكر فيه فضائل المسند وخَصَائِصَهُ"3.
4- (جامع الأصول): لابن الأثير الجزري (ت606هـ).
قال ابن القَيِّم: "رزين بن معاوية صاحب (تجريد الصحاح) … وعلى كتابه التجريد اعتمد صاحب (جامع الأصول")4.
وبعد، فهذه أمثلة لِمَا جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في تقويم مصادره والتعريف بها، وفي هذه الأمثلة تظهر شخصيته المتميزة، وأثرها في نقد مصادره - سلباً أو إيجاباً - نقداً مفيداً بنَّاءً، مما يجعل لهذه الأقوال وزنها في التعريف بهذه المصادر، والوقوف على مكانتها وقيمتها.
ويؤكد هذا النقد - في الوقت ذاته - حقيقة أخرى، وهي: يقظة ابن القَيِّم وهو يستفيد من هذه المصادر، ومعرفته بأحوالها، وتمييزه بين غَثِّهَا وسمينها
...تابع القراءة