| 0 التعليقات ]

من المهم - عند تناول مؤلفات ابن القَيِّم - أن نتعرف على المصادر التي اعتمدها في كتبه، ونقل عنها في بحوثه؛ فإن نظرةً فاحصةً في قائمة مصادره تبرز لنا أهم الخصائص التي تميز حياة ابن القَيِّم العلمية وكتاباته.
ويمكننا أن نتناول في هذا المبحث المتعلق بالمصادر المسائل الآتية:
المسألة الأولى: منهجه في النقل عن المصادر، وأهم الخصائص المميزة لمصادره.
يمكن تحديد المعالم الأساسية لمنهج ابن القَيِّم في تعامله مع المصادر، وأهم السمات التي تميزت بها مصادره فيما يلي:
أولاً: وفرة مصادره وكثرتها، إذ بلغت مصادره في كتاب واحد- وهو (زاد المعاد)-: ثمانين ومائة مصدر تقريباً1، أما عدد المصادر التي وردت في مجلد واحد من (الصواعق المرسلة) فقد بلغت حوالي مائة كتاب2.
ثانياً: تنوع مصادره رحمه الله، وشمولها فنون عديدة، وما ذلك إلا لتنوع معارفه، وتصنيفه في أكثر من فنٍّ كما مضى.

ثالثاً: اعتماده في كل فن على أشهر وأهم وأجود ما كُتِبَ وصُنِّفَ فيه، يلحظ ذلك كل من تعامل مع كتبه، أو طالع قائمة مصادره.
رابعاً: لم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقل مادته العلمية بالمصادر المكتوبة فقط، بل رُبَّمَا دَوَّنَ بعض المعلومات بطريق المشافهة والسماع.
فيقول مرة: "سألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبدالله عن أبي هريرة؟"1. ويقول مرة أخرى: "قُرئَ على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في (التهذيب) وأنا أسمع"2.
خامساً: من المصادر التي اعتمد عليها ابن القَيِّم في تسجيل معلوماته أيضاً: المشاهدة والملاحظة والتجارب الشخصية، كما مضت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الكلام على منهجِهِ في التأليف3.
سادساً: حِرْصُهُ - رحمه الله - على توثيق ما يَنْقُلُه من معلومات من هذه المصادر، حتى إنه ليراجع للكتاب الواحد عدة نسخ عندما يقتضي الأمر ذلك.
قال مرة في حديث: "وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا"4. ويقول في حديث آخر: "هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة عنه..."5.
سابعاً: قد يُسَمِّى بعض المصادر بغير ما اشتهرت وعُرِفَت به، فيقول في (سنن أبي داود): "وقال أبو داود في مسنده"1. ومرة يقول: "رواه أبو داود في صحيحه"2. وكذا قال للدارمي مرة: "قال الدارمي في صحيحه"3. وقال مرة: "رواه ابن الجارود في مسنده"4. وقال عن كتاب (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: "اختلاف الحديث"5.
وهذا وإن كان قليلاً في كلام ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن فيه نظراً؛ وذلك من الناحية الفَنِّيَّة الصناعية، وكذا من ناحية احتمال وقوع بعض اللبس للناظر في ذلك، وإن كان قد دَرَجَ عليه كثير من أهل العلم في مؤلفاتهم.
ثامناً: يختصر ابن القَيِّم - رحمه الله - في كثير من الأحيان اسم المصدر، أو يشير إليه بموضوعه، الأمر الذي يحتاج من الناظر في كتبه إلى دراية بالكتب ومؤلفيها وموضوعاتها؛ وذلك ليمكنه معرفة الكتاب المقصود.
ومن الأمثلة لما جاء عنه في ذلك: قوله: "روى الدارمي في النقض"6 ويقصد به كتاب (النقض على بشر المريسي). وقال مرة:"قول الإمام أبي القاسم الطبري اللالكائي… في كتابه في السنة"1. واسم كتابه كاملاً: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة). وقال مرة: "وقال أبو حاتم البُسْتِي في كتاب الضعفاء"2 واسم الكتاب كاملاً: (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين)، وهذا الصنيع اشتهر - أيضاً - عند كثير من الأئمة، يفعلونه اختصاراً.
تاسعاً: لم يلتزم ابن القَيِّم بذكر اسم المصدر الذي ينقل عنه دائماً، بل إنه كثيراً ما يُسَمِّي الشخص الذي ينقل عنه دون تعيين اسم كتابه، وسيأتي ذكر طرف من ذلك عند الكلام على منهجه في التخريج.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله: "قال محمد بن عثمان الحافظ"3. وقوله مرة: "قال الحازمي"4. وقوله: "قال الرازي"5. وهذا كثير منه، ومعلوم أن هذا قد يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى المصدر المقصود، وبخاصة إذا كان الْمُؤَلِّفُ المشار إليه له أكثر من كتاب في الفن، كالذهبي مثلاً؛ فإن له عدة كتب في الرجال.
كما أنه - رحمه الله - رُبَّمَا نقل بعض الفوائد دون تعيين اسم المصدر أو المؤلف.
على أن ابن القَيِّم قد يكون معذوراً في ذلك؛ إذا قد عُرِفَ بالدقة في النقل، مع بسط مسائله وشدة تحريرها، بحيث إنه - رحمه الله - لم يُبْقِ للقارئ والمطالع حاجةً للرجوع إلى أصوله التي نقل عنها، على أن هذا الصنيع - أيضاً - عُرِف عن كثير من الأئمة الأعلام في مصنفاتهم وتواليفهم.
عاشراً: عِنَايَتُه - رحمه الله - بالمصادر التي تَتَّصِلَ بموضوعه اتصالاً مباشراً، وإِكْثَارُهُ من النقل عنها، بحيث تكون هي المصادر الأساسية لذلك الموضوع.
فتجده في (جلاء الأفهام) - الذي يتناول فيه موضوع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ من النقل عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )1 لإسماعيل بن إسحاق، حتى إنه قد ينقل عنه باباً بكامله2. وينقل فيه أيضاً عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ) لأبي الشيخ3، ولابن أبي عاصم أيضاً4، وغيرهم.
وكذا الحال في سائر كتبه، فإنه يُعنى في المقام الأول بالمصادر المصنفة في موضوع كتابه، أو التي لها به صلة مباشرة.
حادي عشر: ربما يلجأُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويم بعض المصادر التي ينقل منها، وإبداء رأيه فيها، وسيأتي الكلام على ذلك بأوسع من هذا.
تلك أبرز الملاحظات حولَ منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من المصادر والنقل عنها، وبيان بعض الخصائص المميزة لبعض هذه المصادر.
المسألة الثانية: تقويم ابن القَيِّم لبعض مصادره، وإبداء رأيه فيها.
لم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يستفيد من هذا العدد الهائل من المصادر المتنوعة، مُجَرَّدَ ناقلٍ فحسب، وإنما بَرَزَتْ في بعض الأحيان شخصيته المتميزة وهو يُبْدي رأيه في بعض هذه المصادر: بمدحها والثناء عليها تارةً، وتارةً أخرى ببيانِ عيوبها وبعض المآخذ عليها، وتارةً ثالثة بالتعريف بها أو ذكر بعض المعلومات التوضيحية عنها، أو الفوائد المتعلقة بها.
فمن الكتب التي مَدَحها وأَثْنَى عليها:
1- (سنن أبي داود):
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لما كان سنن أبي داود... من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حَكَمَاً بين أهل الإسلام... فإنه جَمَعَ شَمْلَ أحاديث الأحكام، وَرَتَّبَهَا أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطِّرَاحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"1.
ولعل قوله رحمه الله باطراح أبي داود أحاديث المجروحين والضعفاء، يُحْمل على الغالب؛ فقد وُجِدَ بَعْضُهُم في كتابه.
2- (الأحاديث الجِيَادُ الْمُخْتَارَة): للضياء المقدسي (ت643هـ).
قال ابن القَيِّم: "… التي هي أصح من صحيح الحاكم"1.
3- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفسوي (ت277هـ).
قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب جليل، غزير العلم، جمُّ الفوائد"2.
4- (تفسير البغوي) للحسن بن مسعود البغوي (ت516هـ).
قال ابن القَيِّم: "… الذي هو شَجَىً3 في حُلُوق الْجَهْمِيَّة والْمُعَطِّلَة"4. وقال أيضاً: "… الذي اجتمعت الأمة على تلقِّي تفسيره بالقبول، وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير"5.
5- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم (ت224هـ).
قال ابن القَيِّم: "الذي هو لمن بعده من كتب الغريب إمام"6.
6- ( السنة): وهو (شرح أصول اعتقاد أهل السنة). لأبي القاسم اللالكائي.
قال ابن القَيِّم: "وهو من أجلِّ الكتب"1.
7- (الرد على الجهمية):
8- ( النقض على بشر المريسي): كلاهما لعثمان بن سعيد الدارمي.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكتاباه من أَجَلِّ الكتب الْمَصَنَّفَةِ في السنة وَأَنْفَعِهَا، وينبغي لكل طالب سُنَّةٍ مراده الوقوفُ على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كِتَابَيْهِ، وكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة -رحمه الله- يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جداً"2.
9- (فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات): لأبي العباس المظفري.
قال ابن القَيِّم: "وهو - على صِغَرِ حجمه - كتابٌ جليلٌ، غزير العلم"3.
10- (أقسام اللَّذَّات): لفخر الدين الرازي.
قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب مفيد"4.

ومن الكتب التي انتقدها وبيَّنَ بعض المآخذ عليها:
1- (سنن ابن ماجه):
قال ابن القَيِّم في حديث: «من مات مريضاً مات شهيداً": "من أفراد ابن ماجه، وفي أفرادِهِ غَرَائبُ ومُنْكَراتٌ"1. ونقل كلاماً في هذا المعنى عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي2.
2- (المستدرك): للحاكم.
قال يرد على الحاكم في حكمه على حديث بأنه على شرط سلم وليس هو كذلك: "وهذا وأمثاله هو الذي شَانَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ، وجعل تَصْحِيحَهُ دون تحسين غيره"3.
3- (حقائق التفسير): لأبي عبدالرحمن السُّلمي (ت 412هـ).
قال ابن القَيِّم: "… التفاسير المستنكرة المستكرهة، التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يَتَعَارَفُهُ النَّاس؛ كَحَقَائِق السُّلَمي وغيره، مما لو تُتُبِّعَ وبُيِّنَ بُطلانه، لجاءَ عِدَّة أسفار كِبَار"4.
ومن المصادر التي ذكر معلومات تعريفية إيضاحية عنها:
1- (مسند الإمام أحمد):
قال رحمه الله: "الإمام أحمد لم يشترط في مسنده الصحيح ولا التزمه، وفي مسنده عِدَّة أحاديث سُئِل هو عنها، فَضَعَّفَهَا بعينها وأَنْكَرَهَا"1.
2- (الكامل في ضعفاء الرجال): لأبي أحمد بن عَدِيّ (ت365هـ).
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهو إنما يذكر فيه غالباً الأحاديث التي أُنْكِرَت على من يذكر ترجمته"2.
3- (خصائص المسند): لأبي موسى المديني.
قال: "وقد صَنَّفَ الحافظ أبو موسى المديني كتاباً ذكر فيه فضائل المسند وخَصَائِصَهُ"3.
4- (جامع الأصول): لابن الأثير الجزري (ت606هـ).
قال ابن القَيِّم: "رزين بن معاوية صاحب (تجريد الصحاح) … وعلى كتابه التجريد اعتمد صاحب (جامع الأصول")4.
وبعد، فهذه أمثلة لِمَا جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في تقويم مصادره والتعريف بها، وفي هذه الأمثلة تظهر شخصيته المتميزة، وأثرها في نقد مصادره - سلباً أو إيجاباً - نقداً مفيداً بنَّاءً، مما يجعل لهذه الأقوال وزنها في التعريف بهذه المصادر، والوقوف على مكانتها وقيمتها.
ويؤكد هذا النقد - في الوقت ذاته - حقيقة أخرى، وهي: يقظة ابن القَيِّم وهو يستفيد من هذه المصادر، ومعرفته بأحوالها، وتمييزه بين غَثِّهَا وسمينها

0 التعليقات

إرسال تعليق